أغراض الشعر الجاهلي ـ 2 ـ

أغراض الشعر الجاهلي ـ 2 ـ

الرثاء :  هو التعبيرعن التفجع على الميت ، وبكاء فضائله مقترنة يالحزن والأسى واللوعة على فقده ، ، وتصوير مشاعر الوجدان حيال حادثة الموت ، وقد قيل :" ليس بين الرثاء والمدح فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه هالك ، مثل : كان ، وتولى ، وقضى نحبه ، وما شابه ذلك ، ظهر هذا الغرض بسبب كثرة الحروب التي كانت تؤدي إلى قتل الأبطال ، وسنتناول شاعرين من أشهر شعراء الرثاء في الجاهلية وهما : المهلهل بن ربيعة ، والخنساء .

أولاً : المهلهل : هو عدي بن ربيعة  " توفي 530 م " أخو كليب وائل التغلبي .المشهور بـ"الزير سالم" .

حياة المهلهل شطران : لاهٍ وجاد ، يفصل بينهما مقتل أخيه كليب على يد جسـّاس ابن مرّة من بني بكر  . ففي الشطر الأول : كان المهلهل شاباً عابثاً ، يعيش للخمرة والمرأة ، يقضي أوقاته في مجالس الشراب والمنادمة ، يلعب النرد ويسعى إلى شؤون القلب ، وكان كثيراً ما يذهب للقنص والصيد في البراري وأكثر صيده كان من السباع ، خلياً من تبعات الحياة القبلية ، يلقيها على عاتق كليب ، على أن هذا النمط من السلوك لم يكن عن ضعف أو تخاذل ، إذ ربما شارك في الأحداث الكبار ، والمواقع الجسام ، فأظهر قوة وعزيمة ، كالذي كان من أمره في وقعة السـُّلاّن " وهو مكان في الحجاز جرت فيه المعركة " وكانت بين بني عامر والنعمان بن المنذر ، وشارك فيها المهلهل وأخوه كليب على رأس قبائل "معدّ" للقاء جموع اليمنيين  وكان النصر حليفهما ، إلا أن الحزن  الذي انتاب المهلهل على أخيه كليب ، جعله ينهض للثأر ، فبدت رجولته الفذة ، وجرأته النادرة ، فإذا به يسعر نار الحرب ضد بني مرة والبكريين عامة ، ويخوض معركة الثأر بجلد وثبات ، وإصرار وعناد ، أربعين عاماً وهي "حرب البسوس" التي بدأت سنة 494م حتى مماته ، ويذكر أن المهلهل لماهرم وخرف أقام عليه قومه عبدين يخدمانه ، وخرج  بهما إلى سفر فعزم العبدان على قتله ، أوصى العبدين قبل أن يقتلاه  : أن يحملا إلى ابنته ليلى هذا البيت من الشعر وهو :

من مبلغ الأقوام أم مهلهلاً    لله درّكما ودرّ أبيكما

فأنفذ العبدان وصية المهلهل ، وأدركت ليلى غاية أبيها وقالت : ما أراد أبي إلا أن يقول :

من مبلغ الأقوام أن مهلهلاً 

                   أضحى قتيلاً في الفلاة مجندلا

للـه  درّكـمـا ودرّ أبـيكـما        

                 لا يبرح  العبدان  حتى   يـُقتلا

الرثاء في شعر المهلهل  : له مقاطع في الغزل والخمر ، إلا أن منزلته تعود إلى رثائه ، فيه تظهر شخصيته ، بما فيها من رقة وشدة ، ولين وصلابة ، واستكانة وثورة ، وعندما علم بمقتل كليب حزن حزناً شديداً، وأسرف في آلامه ، ثم نهض للثأر ، وزجر النساء عن البكاء ، وأقسم ألا ينال لذة ، ولا يذوق خمرة ، ولا يتعطر بطيب ، حتى ينال ثأره ، فالألم ممزوج بالثأر ، يتناوبان في قصائده بصدق وإخلاص ، ندب وتفجع وتهديد ووعيد . وتعتبر المرثاة التالية من أجود ما قاله المهلهل في كليب ، يقال إنه أنشدها على قبره ، بعد مصرعه بوقت قصير ، والحزن ما زال متقداً في نفسه والغضب ما زال عاصفاً بأعماقه ، وهذه القصيدة "أهاج قذاء عيني الإ ذ ّكار" تنقسم إلى أربعة أقسام : في المقطع الأول يصف المهلهل سهره ولوعته حيث يقول :  

أهاج قذاء عيني  الإذّ ّكـار   هدوءاً فالدموع لها انحدار

وصار الليل مشتملاً علينا  كـأن  الليـل  ليـس لـه نهـار

وبتُّ أراقب الجوزاء حتى   تقـارب مـن أوائلها انحـدار

أُصرّف مقلتي في إثر قوم  تباينـت البـلاد  بهـم  فغـاروا

وأبكي والنجوم مطلــّعات   كأنْ لم تـَحـْوِهـا عني البحـار

على من نـُعـِيتُ وكان حياً   لقـاد الخيـل  يحجبهـا الغبـار

التعليق : يقول : أذهله المصاب الجلل فأقبل على الشراب ليجد فيه الصبر والنسيان ، ولكن لم تسله الخمر ، فإذا به عند قبر أخيه يبكيه ، وتستبد به الذكرى وتضيق جوانحه بعبرات قلبه ، فتفيض من عينيه مدرارة ، فهو موجع الحشا مقرّح المقلة ، مؤرّق الجفن وقد احتواه الليل بين طياته ،  وكأنه ليل سرمدي يطول بلا انتهاء ، ويرسل عينيه في السماء والكواكب بحثاً عن أحبابه بتأوه وعذاب ، ويسرح البصر في إثرهم لعله يجد شيئاً من آثارهم أو يجدهم ، ولكن هيهات فقد فارقه الأحبة وانقطعت أخبارهم وغابوا في التراب ، ياله من حزن عميق صوره الشاعر ، يبكي وما زال الليل مسدلاً ستاره لا يعبأ بحزنه العظيم ومصابه الجسيم ، والنجوم أيضاً تقوم مشجعة الليل البهيم فهي طالعة ثابتة وكأنها تقول له ألا نهار لدى الشاعر المكلوم فهي لا تريد أن تغرب في البحار وتسقط ، وبالتالي بيطول الليل به ، والمقصود بالبحار هنا : الفضاء الواسع ، وفي البيت الأخير يضع نفسه مكان أخيه في القبر وأخاه كليب مكانه فيقول : بكائي على رجل لو كان حياً ونعيت له لاندفع بثأر لي بخيل عليها الفرسان الأشاوس  تثير غبار الحرب حتى يحجبها من شدة هول المعركة ، وهو تصوير فني ، وشعر حماسي في هذا البيت ، وفي قوله" لقاد الخيل" مجاز يعني الفرسان الذين تحملهم الخيل .

في المقطع الثاني : يناجي المهلهل ويصف مكارم أخلاقه ويسلـّم بحتمية الموت .

ـ دعوتك يا كليب فلم تجبني   وكيف يجيبني البلد القفار

يرسم الشاعر صورة بديهية وهي عدم جواب أخيه لأنه ميت ،وهي تعكس على النفس حزناً عميقاً في نفس الشاعر ، ثم يجيب نفسه وكيف يجيبني البلد القفار، نعم كيف يجيب من مات ودفن في أرض خالية من الحياة ، وهنا صورة تجعلك تعيش مع الشاعر همه وكمده العميق .

ـ سقاك الغيث إنك كنت غيثاً   ويـُسراً حين يـُلتمـَس اليـَسار

يشبه الشاعر أخاه بالغيث ولا يذكر أداة تشبيه لأن الغيث واليسر هو نفسه كليب ، وكنت سهلاً ليناً .

ـ أبت عيناي بعدك أن تكـُفـّا   كأن غضا القتاد لها شفار

يقول : ترفض عيناي ترك البكاء فتسيل الدموع بلا توقف وتذرف العبرات بلا هوادة كأن الغضا وهو شجر من الأثل خشبه أصلب الخشب وجمره يبقى زمناً طويلاً والقتاد شجر له شوك أمثال الإبر ، وأشفار عينيه منابت شعر الجفون ، وكأن تلك الأشواك كانت لعيني الأهداب فهي متقرحة من كثرة البكاء المر ، وهنا يصور الشاعر الأهداب والشعر الرقيق على حواف العينين بالشوك الصلب الجارح المؤذي وهو تصوير بارع .

ـ وإنك كنت تحلم عن رجال    وتعفـو عنهـم ولـك اقـتـدار

ـ وتمنع أن  يمسّهم  لسـان    مخافـة من يجيـر ولا يجـار

هنا يستطرد الشاعر فيذكر صفحات مشرقة من أخلاق أخيه الكريمة والتي عرف بها أشراف العرب وهي : العفو عند المقدرة ،  والحلم وتصفح عن زلاتهم ، نعم يعفو عن الرجال ، وهو مقتدر متسلط متمكن ويستطيع أن يفتك بهم ويصبحوا من الأموات وقوله : "لك اقتدار" استدراك جميل لأن العفو لا قيمة له إلا عند المقدرة ، وفوق عفوك يا كليب فإنك لا ترضى أن ينبس أحدهم بكلمة تؤذي الذين عفوت عنهم ، فأنت تجيرهم وتحميهم بعد العفو .

ـ يعيش المرء عند بني أبيه    ويوشك أن يصير بحيث صاروا

ـ أرى طول الحياة وقد تولـّى   كمـا قـد يـُـسلـب الشيء المـُعـار

نعم هو الموت الذي يأتي فجأة فلا يطرق الباب ليستأذن ، لقد كنت يا كليب بيننا ولكن أصابك ما أصاب آباءك الكرام قبلك فلحقت بهم ، ثم يصور الحياة بالعارية وهي"الشيء الذي يعار الوديعة" التي لا تطول ، فيخطفها المعير متى شاء فهي ليست ملكاً له ،، وهنا نلحظ عمق تفكير الشاعر عندما استخدم كلمة "يسلب "، والسلب لا يكون في المستعار ولكن يكون فيما تملكه ، ولسان حال الشاعر الذي أصابه اليأس يقول : لا حياة بعد كليب يا مهلهل " وقوله:" بحيث صاروا" كناية عن القبر والموت .

في المقطع الثالث : يعود المهلهل إلى وصف فجيعته بأخيه وكيف زار قبره .

ـ فدرت وقد عشا بصري عليه    كما دارت بشاربها العـُقار 

ـ سألت الحي : أين دفنتموه ؟  فقالوا لي : بسفح الحيّ دار 

ـ فسرتُ إليه من بلدي حثيثاً    وطـار النـوم وامتنـع القـرار

ـ وحادت ناقتي عن  ظل  قبر   ثـوى فيـه المكـارم  والـفخار

 يقول الشاعر: بأن الخبر أفزعه فأصبح لا يرى شيئاً كشارب الخمر"العقار" عندما يشربها لا يعلم من أمره شيئاً ،وهنا يصور لنا مدى قوة الخبر الذي سمعه فأصبح كمن لا يعي شيئا .  حاله وقد أتاه الخبر المفزع فغدا كالأعمى يجوب الديار يسأل القوم عن مكان دفنه ، فأجابوه : هناك في أسفل الجبل ، فسار إليه من مكانه البعيد عن القبر، وصور النوم بالطائرالذي طار من بين يديه فهو لا يؤمل رجوعه له ، وفي تصويره هذا بامتناع الاستقرار ،قد أعطاه روحاً وحساً ، وهنا وفق الشاعر في اختيار الألفاظ ، وبعد يكتمل مشهد الحزن فعندما وصل الشاعر القبر مالت ناقته إلى قبر أخيه ، وهو ليس كأي قبر ، بل حفرة دفنت فيها المكارم والفخار ، وهذا تشبيه لأخيه بالمكارم والفخار ، وأنها تجسدت تجسداً حقيقياً وهذا أضفى على المشهد جمالاً على جمال ، ثم ألا ترى كيف أشرك ناقته بانكساره وإكباره لصاحب القبر عندما ابتعدت عن ظل القبر ، وبذلك يكون الشاعر قد أضفى عليها شيئاً من صفات الإنسان : وهي العقلانية ، حيث صورها تنساق بالوعي ، لا الغريزة ، فتحيد عن قبر أخيه .

في المقطع الرابع: يسائل كليباً هل يكون معه في الحرب لأجل الثار وعهده لأخيه بذلك :

ـ أتغدو يا  كليب معي إذا ما    جبان القـوم أنجـاه الفـرار

يخاطب الشاعر أخاه عند وصوله إلى قبره ، فتمر الصور في خاطره سريعة متتالية ، وتجري الذكريات الجميلة في ذهنه بمجرد الوقوف على القبر ، فيقول : أتذكر يا كليب حينما كنا نذهب معاً لنقاتل ويفر الجبان منك بمجرد رؤيتك فلا ينجيه منك قوم ولا قبيلة ، وهنا يتجلى بعض الهم الذي داهمه .

ـ أقول لتغلب والعز فيها :     أثـيـروهـا   لذلكـم  انتصـار

يقول الشاعر لقومه : أشعلوا نارالحرب ضد بني بكر، وفي ذلكم نصر لكم .

ـ خذ العهد الأكيد عليّ عمري   بتركي كل ما حوت الديـار

يخاطب الشاعر أخاه فيقول : خذ عليّ عهداً مؤكداً ما دمت حياً بأني : سأترك كل ما حوته الديار .

ـ وهجري الغانيات وشرب كأس   ولبسي جُبـّة لا تستعـار

هنا يكمل عهده لأخيه : بأن يهجر النساء والشراب ، وأن يقيم على لبس الجبة " الدروع"  التي لا تستعار ، كناية عن استعداده الدائم للحرب ولن يستريح أبداً حتى ينال مراده .

ـ ولست  بخالع  درعي  وسيفي   إلى أن يخلع الليل النهار

يؤكد الشاعر لأخيه بأنه لن ينزع عنه درعه وسيفه ما دام النهار لا يخلع الليل حتى يعود كليب ويرجع إلى الحياة ، كناية عن نيته أنه سيحارب أبد الدهر .

ـ وإلا  أن  تبيـد  سـراة   بـكـر    فلا  يبقى  لها  أبداً  أثـار

يتعهد الشاعر باستمرار الحرب حتى يفني كبار زعماء بني بكر حتى لا يبقى لهم أثر ،  كناية عن النية بفنائهم جميعاً عن وجه الأرض . وقد وفى الشاعر بوعوده : فقد قتل جساس قاتل كليب وآخرون من كبار بني بكر ،ورجالها ،  ودامت الحرب اربعين عاماً حتى قتل العديد من الأبطال والفرسان من بكر وتغلب .

خصائص شعر المهلهل في رثائه كليباً:

·         صدق التعبير ، والإخلاص في الشعور .

·         القصيدة مفعمة بصدق العاطفة .

·         اللوعة والأسى والتفجع لمقتل أخيه .

·         صدق العاطفة ، أدى إلى وضوح المعاني سهولة التعابير ، شعره رقيق ، بعيد عن التكلف .

·         أما الخيال فمحدود ، والصور البيانية قليلة لانسياب شعره مع الطبع .

·         قد نجد بعض التشبيهات ، وبعض ملامح المجاز ، وهي تشبيهات محسوسة قريبة المتناول تتفق مع معطيات البداوة : من ذكر لليل والنجوم والكواكب وبعض أشجار الصحراء والخيل والفرسان وأنواع الأسلحة وغيرها من مظاهر البيئة .

·         المبالغة أحياناً والتكرار، لتأكيد عزيمته على الحرب وإظهار أساه على كليب  كقوله :

أتغدو يا كليب معي إذا ما   جبـان القـوم أنجـاه الفـرار

أتغدو يا كليب معي إذا ما  حلوق القوم يشحذها الشفار

·         استسلام الشاعر لحقيقة الموت ، وأن كليباً لن يجيبه عن سؤاله ولن يعود إلى الحياة للأبد .

سامحوني لقد أطلت عليكم مع اجتهادي بالاختصار ، إلا أن بطلنا يستحق ، لعلنا ألقينا الضوء على جزء من حياته وشعره ، نلتقي في المقالة التالية : مع الخنساء استكمالاً لغرض الرثاء وغيره إن أمكن .

 قراءة: 

أغراض الشعر الجاهلي (1)

أغراض الشعر الجاهلي (3)

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author