الحرب الخفية

لم يعد الواقع الذي نعيشه الآن بتلك المثالية التي يتوهمها البعض ، و لا التطور الذي طال كل شئ بتلك البراءة التي تُصّور لنا ،  فليس جميعها يعود بالنفع والخير علي الإنسانية كما يُّخيل إلينا ،

 فمع واقعنا الذي نعيشه واقع آخر إفتراضي شبيه له لا يقل عنه أهمية ومكانا تطور عن ذي قبل أضعافاً مضاعفة ، يقع الكثيرون منّا فريسة سهلة لأدواته الممتدة بإتساع الكون  يعيشه غالبيتنا في هذه الأيام بعد أن إختلط الحابل بالنابل و أصبحت غالبية الحقائق فيه مشوشة لها أكثر من شكل وأكثر من صورة .

 إن العلاقة المتأصلة بين الإنسان والواقع الذي يحيا به ترجع حيثيتها الي المجتمعات التي يعيش فيها ويتعايش معها ، وعلي الرغم من أنه جزءاً لا يتجزأ منها إلا أنها بالنسبة إليه كفرد له قدرات و أدوات محدوده تظل منغلقة مهما كانت نوافذها مفتوحة علي العالم ، وتظل رؤيته ضيّقة مهما كان واسع الأفق مقارنة بالمؤسسات والدول التي تملك من الأدوات والمعلومات ما تستند عليه ، فنشأت كتلة عظيمة من الفراغ  نمت بينه وبينها خلقت براحاً واسعاً هيأ لما يسمي بالواقع الإفتراضي أو صنّاع الوهم التداخل فيه بصورة أكثر تطورا عمقاً . 

إن التقدم التكنولوجي الذي تحقّق في عصرنا والذي وصل به إلي ما لم تصل له العصور السابقة خلق نوعاً من الفراغ بين طبقات المجتمع الواحد وبين مجتمع ومجتمع وعالم وآخر ، تباينت  فيه القوي بين المجتمعات والدول في شتّي المجالات وصار الصراع علي أشدّه ... نعم ليس صراعاً عسكرياً بحتاً كما كان سابقا و إن كان ما زال جزءاً منه ... ولكنه صراع من نمط آخر ، انقلبت به موازين القوي علي المستوي العالمي ،   .

تألق في هذا التقدم سلاح فتّاك متنوع الأدوات يقود الحرب الخفية إسمه صناعة الوهم وهو وليدٌ حديثْ لنظم كاملة ودول عملاقة ، كان الهدف من نشأته بناء واقع إفتراضي حديث موازياً لذلك العالم الذي نعيشه يخدم خطط صانعه ، لا يحتاج إلي عناصر عسكرية أو أسلحة نوويه ، كل ما يحتاجه هو بعض ممن يتقنون فن التعبير أو بعض ممن يحترفون أساليب التسويق وفنونها ، وقليل من المال الذي لا تذكر نسبته مقارنة بما  يُنفق في تصنيع السلاح أو شراؤه .

ومع إجتياح وسائل التواصل الإجتماعي لكل بيت و أسرة وفرد ، ووصول الهواتف الذكية للفقراء قبل الأغنياء ، وزهد أسعار الإنترنت الذي جعله في متناول الجميع ، تمكّن هذا السلاح بقيادة صنّاع الوهم من الإختراق الكامل للدول و البلاد والمدن والقري ، بل وسهّل لهم إستخدام أدواتهم في شنّ حرب شرسة علي العقول و الأفكار ، فأصبح من السهل زراعة الأفكار  والمعتقدات التي تلبّي تحقيق مخططاتهم ، بل ربما استطاعوا بأدواتهم تلك خلق مواقف شعبية تخدم أهدافهم فيمتلكون بها مصائر أنظمة وأمم بأكملها .

سلاح كهذا يحمل أفكار معقّدة ممنهجة يُسوّق لها تخدم أهدافاً وخططاً تتباين في طول مداها ما بين قريبة وبعيدة يسعي أصحابها لتحقيقها مهما طال الزمان تُخطط دائماً بفكر استراتيجي يدرس جيدا كل المتغيرات المتوقع حدوثها لا يخضع لقوانين دولية أو رقابة حدودية و ليس من المحّرمات الدوليه ، صعب علي عقل الانسان البسيط أن يستوعبه أو يدرك حجم خطورته إلا بالتوعية والكشف  التام له بماهيته المتلونّة ومدي خطورته علي الأجيال الحالية والقادمة .

فلو أدرك كل منّا ماذا يعني أن تكون كل الحقائق التي يمكن تخيّلها  قابلة للتغيير والتزييف  علي يد صنّاع الوهم هؤلاء لفهم وفطن أن ذلك لا يعني سوى انهيار كامل لأعمدة المصداقية التي تقوم عليها علاقة الفرد بمن حوله من أفراد ومؤسسات مما يدفع بمعايير المجتمع السوي الي الإنحلال فتختل الموازين و يصبح كل منّا متهم في نظر الآخر فتسقط الحياة الآمنة المستقرة نحو الهاوية ، ولأدرك أيضاً ما نعيشه الآن  من هجوم شرس متغاير الألوان ومتعدد الجهات هدفه تقويض الدولة وشلّ حركة التنمية بها بزعزعة الثقة في القائمين عليها ، ولظهر له جليّا تلك الأفكار المسمومة التي يحاول البعض تسويقها .. لتشكيك الأفراد في سيادة وطنهم و قدرته علي التعامل الأمثل مع قضية كهذه مليئة بالخداع والمكر ، ولفطن الي ما يرمي به صنّاع الوهم هؤلاء لزعزعة الثقة في الكوادر المسئولة و لتيقن أن هذا كله لا يتعدي الأكاذيب التي  تتنافي تماماً  مع الحقيقة التي لا شك فيها وهي أن الوطن قادر علي حفظ أراضيه وحماية مقدّراته وسيادته والتي لا يصلح أن يكون الحديث عنها مشاعاً للعامة .

 إن المؤسسات المعنيّه بكامل طاقتها تعمل علي التوجيه والتصدي وفقاً لمعايير محددة وخطط مدروسة ،  لكن حرب شرسة ممتدة كهذه .. التصدي لها ليس سهلاً ولا كافياً ، نحن بحاجة الي سلاح رادع أقوي وهذا لن يتحقق الإ بالوعي ..

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles