العقاد في المحاكم الأدبية

                            
 قد استقر عندي معشر القراء أننا لا نقرأ إلا لغاية وهي الاستفادة من المطالعة وحينئذ تكون القراءة وسيلةً لا غاية، وهذا خلاف ما ذهب إليه العقاد إذ يرى أن القراءة غاية تطلب لذاتها والانتفاع بها يأتي تبعاً لها، ويرى أنه من الخطأ أن نحدد ونختار لأنفسنا ما ينفعنا من القراءة، بل نقرأ دون تحديد ولا اختيار وسنستفيد حتماً بما نقرأ فيقول في كتابه (الفصول) "يقول لك المرشدون اقرأ ما ينفعك. ولكني أقول بل انتفع بما تقرأ. إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟ ".

 ويظهر مذهبه جلياً في كتابه (أنا) إذ يقول: "وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض فاقرأ ما شئت تستفد. فإذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى فيها من الموضوعات فما أجمل القراءة وأجداها! ". ونحن في هذا المقال لا نفند قول العقاد فحسب بل نقاضيه في المحاكم الأدبية التي يرأسها السادة الأدباء وأنتم الجمهور فيها أيها القراء. وإن اتهامنا للعقاد ليس اتهاماً على قوله وما ذهب إليه ولكن نقاضيه على تناقض قوله واضطراب رأيه.

ونأتي إلى تفنيد قوله أولاً، فنقول أنه قد صح عندنا قول المرشدين وسقط قول العقاد عما نرى ونعتقد؛ لأننا نرى صواب التحديد في اختيار الكتب وانتقاء ما نقرأ بعناية وإلا تساوت عندنا القراءة النافعة بغيرها. وكما هو معلوم عند العقلاء من الأدباء والقراء أن تساوي القراءة مضمونة النفع بقراءة محتملة النفع ضرب من ضروب الخبل، فهل يعقل أن نساوي بين كتاب (لا ريب فيه) وكتاب فيه ريب، أو نساوي بين كتاب (يهدي للتي هي أقوم) وكتاب يهدي للتي هي أسقم؟ وهل تتساوى (أحسن القصص) بحديث يفترى كأكثر الروايات؟.

ومن الخطأ قول العقاد في الكتاب نفسه (الفصول): "إن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة كالمريض الذي لا يأكل إلا الأطعمة المنتقاة يدل ذلك على ضعف المعدة أكثر مما يد على جودة القابلية، واعلم أنه من الكتب الغث والسمين وأن السمين يفسد المعدة الضعيفة، وأنه ما من طعام غث إلا  والمعدة القوية مستخرجة منه مادة غذاء ود حياة وفتاء".

ولكنَّ الصواب -فيما نرى- أن القارئ الذي لا يقرأ إلا الكتب المنتقاة مضمونة النفع كالتاجر الماهر الذي لا يباشر تجارة إلا وكانت مضمونة الربح عنده ويدل ذلك على رجاحة عقله ومهارته التجارية، والكتب عندنا منها النافع للفكر والروح كالعسل للجسم ومنها ما هو ضار و ممرض للفكر والروح كالخمر والطعام الفاسد للجسم.
ومن تلك الكتب كتب السحر والتنجيم وكتب الإباحية كالتي تنشر في الغرب ومنها أيضاً أكثر الروايات ، وإن لم يكن في تلك الكتب ضرر غير مضيعة الوقت والجهد لكان خليق بالقارئ اللبيب أن ينصرف عنها لما هو أنفع له.
وكما قال الوزير ابن هبيرة :-
     والوقت أنفس ما عنيت بحفظه  ** وأراه أسهل ما عليك يضيع

ويقول العقاد أيضاً في كتابه (أنا): فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع".

ولو أننا سلمنا بصحة ما سبق من قول العقاد بأن من مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام، فهل يصح لنا أن نأكل الطعام الفاسد...كلا، بل لأصبحنا مرضى نزور الطبيب أو يزورنا لشدة المرض ولأرشدنا بأكل الطعام النافع ونهانا عن الطعام الفاسد المؤذي. ويكذب عليك الطبيب إذا قال لك أن الطعام الفاسد ليس ذميماً في ذاته، بل لأنك لم تستطع استخلاص ما يغذيك من الطعام الفاسد فكان ضعف معدتك هو السبب في مرضك.

وربما ذاك السؤال الذي سأله العقاد " إذ كيف تعرف ما ينفعك من الكتب قبل قراءته؟" هو الذي دفعه لذلك القول وبنى عليه مذهبه وهو سؤال فيه التباس إذ يوهم القارئ بأنه لا سبيل لمعرفة الغث من السمين من الكتب إلا بقراءتها، وهذا وهمٌ؛ لأنه قد يدلنا على الكتب النافعة مرشد مطلع أو جهبذ من الجهابذة كأمثال العقاد وغيره، أو قد يدلنا على الكتبة النافعة مؤلفها، بل قد يحدثنا الكتاب بعنوانه ومقدمته عما يحتويه بين ثناياه فنعرف نفعه لنا قبل قراءته فنحفظ وقتنا لما هو أنفع.

والآن بعدما أفصحنا عن مذهب العقاد ومذهبنا نأتي إلى مقاضاته في المحاكم الأدبية لتناقضه. فنراه في بعض كتبه يقول بمذهبه وفي البعض الآخر يعمل بمذهبنا، أليس هذا بعجيب من رجل ما علمنا أديباً أشد منه على الثبات على الرأي فهو يقول في الكتاب نفسه (أنا): "
ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!
قلت: نعم … وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني — ولا أكتمك الحق
لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابًا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة
ثمار العقول". ثم يسهب في نفس الفصل من الكتاب فيقول -وهو الشاهد- : " وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص الروايات".

 فها هو ذا يعمل بمذهبنا في مكتبته إذ جعل من القراءة و الاطلاع أداة للحصول على المحصول. وقام أيضاً بالتحديد في اختيار ما يقرأ فكان للمكتبة النصيب الأكبر مما هو سمين من الكتب بالنسبة له وزهد فيما هو غث منها....لماذا؟ لأنه كما يقول ليست من خيرة ثمار العقول. أليس هذا تحيداً في اختيار طعام الفكر أم كان للعقاد معدة عقلية ضعيفة داخل مكتبته وكان ذا معدة عقلية قوية داخل كتبه؟.

وأيضاً في كتابه (يسألونك) يقول: " وليس مما يستطيع أن يترك كتابًا يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة، ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتابًا لا يضمن نفعها… عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات.
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة
المرجوة، ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع".

لماذا يفضل العقاد كتاب مضمون النفع على خمسين كتاباً لا يضمن نفعه إذا كان لا يرى التحديد في اختيار الكتب؟ وهو القائل أيضاً في كتابه (أنا):" ولا أظن أن هناك كتب مكررة لأخرى؛ لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة". فنقول إذن ليس هناك ما يقدح في الخمسين كتاباً إذا قُرأت؛ لأنها ليست فكرة واحدة بل خمسين فكرة، وأنه ليس هناك كتاب مضمون النفع وكتاب لا يضمن نفعه إذ كيف نعرف نفعه قبل قراءته كما قال؟
فيا أيها السادة القضاة من الأدباء أليس هذا اضطراباً وتناقضاً في الرأي يحاسب عليه العقاد أم كان للعقاد مذهبان مذهب يقول به وآخر يعمل به؟.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author

قارئ من معشر القراء