قفص الأوهام

 

قفص الأوهام

 

 " ما قادك شيء مثل الوهم"

 -ابن عطاء الله السكندر ي

 

في طفولتي كنت مغرم  بمتابعة مسلسل رسوم متحركة تتلخص فكرته في فتى مع دراجته الهوائية يسابق بها خصومه مدعمين ببعض الأسلحة الخيالية بحوزتهم،العهد بهذا المسلسل طويل إلا أن الذي أذكره تماما أن  أشد الأسلحة  فتكا  في هذا المسلسل هي الوهم!،حيث يقع المنافس في طريق موهوم يضله عن وجهته الحقيقة!

 

هذه الصورة الكرتونية أشبه بحياة الإنسان ؛ طريق مستقيم وواضح يعرفه الإنسان جيدا ،تتقاذفه الأوهام حتى   تلهيه عن مبتغاه.

 

أبو البشر آدم عليه السلام كان يعيش في الجنة، يأتيه رزقه فيها بكرة وعشيا ،ثم جاءه الشيطان {فدلاهما  بغرور} أي أوهمها بأنه إن أكل من الشجرة سيخلد ويُم لك ملكا لا يبلى ،  

 

فحتى إبليس الذي تولى مهمة إضلال الخلق من أولهم لآخرهم لا يملك أكثر من الوسوسة و"الوهم"؟! الإعلام  أو السلطة الرابعة كما يحلو للبعض تسميته و الذي يتهمه الجميع بالتضليل والخديعة ،هل حقا تكمن مشكلته بالكذب والخداع؟باعتقادي أن الناس لديها القدر الكافي من الوعي –على الأقل- لتميز بين الكذب والخديعة والصدق والحقيقة ! إن الإعلام يصنع عالما كاملا  من الوهم ثم يخلطه بالحقائق فتُكذب الناس  .وتُصدق في هذا القفص من الأوهام

علم ما يسمى بالتنمية البشرية هو علم  قائم  على ا لأوهام ، يخبرك بأن تملك مليارات الخلايا ليوهمك بقواك  الخارقة مع أن العديد من الحيوانات-على الأغلب- لديها نفسُ  العدد من الخلايا  إن لم يكن أكثر!  يصرفُ  لك قائمة من  المنشطات الوردية ليوهمك أنك سعيد مع أن بعضهم مات منتحراً من الكمد كما حصل مع ديل  كارينجي!

هل سمعت بقانون الجذب الذي انتفش به أصحاب التنمية الوهمية ؟فكرته تتلخص في إن تصنع عالما  كاملا من الوهم فتتخيل نفسك الناجح ،القوي ،الغني ،العبقري ...إلى آخر هذا الزيف !  الأوهام يا صديقي هي محطة  استراحة بين الحقيقة والكذب ، هي منطقة البرزخ بين الواقع المرير والحلم الجميل ،لقد بات الأمر كما يقو ل الأب الروحي للحركة النازية نيتشه "إننا نحتاج إلى السراب فالحقيقة أفظع مع أن نواجهها"! ، اذهب إلى الشارع في اخر الليل  وأوقف سكيرا  وأسئله، أو اسأل زميل الدراسة الذي فشل بسبب المخدرات أو حتى أسأل صديقك المدخن  ، ما هذا الذي تتعاطاه ؟ولا تغرنك الإجابة مهما كانت فإنهم لا يتعاطون شيئا سوى الوهم ولا يحصدون سوى السراب ، بل حتى هذا المقال قد يوهمك بعمق الكاتب أو بحسن بيانه ولو سألتني لعلمت أنه ما هو إلا معجم من  الكلمات جمعتها ثم رصصتها في بنيان واحد موهما نفسي  بأني الكاتب الفذ ، منتشياً  أنني المفكر العميق! وبالمناسبة فلا انصحك أن تسأل سكيراً أو متعاطيا  ولا حتى مدخنا  بل ولا أن تسألني!

في عالم التجارة قلة من المساكين يختا رون التجارة بالبضاعة والغالب الأعم يتاجر بالأوهام ، يوهمك بأن هذا العطر  "أصلي" ،بأن هذه ملابس " علامة تجارية"(ماركة) ، وبأن هذه السيارة غرفة فندقية ولكن بعجلات ،أو بأن هذه المكنسة تشفط صحار ي الربع الخالي أو تنقي مياه المحيط الهادي ،إنهم يصنعون عالما آخر ،هذا صيني وهذا أمريكي أو ألماني ،أو نخب أول أو ثاني إلى عدد لا متناهي من التدريج ،تصانيف تُشعرك  بأنك تختاز زوجتك ثم تكتشف أنك تختار فرشا ة لأسنانك أو مقص ا  لأظافرك!

 

 وانظر ماذا يفعل الوهم عندما يتسرب إلى دين المجتمع ومعتقده ،ألم ت رى كيف رد صناديد قريش على نبيهم حين نهاهم عن وهم الشرك وحقيقة الإيمان؟:"إنا وجدنا آبائنا على أمة " !! وكذا قال بنو إسرائيل وغيرهم!!  

دونك النصار ى الذين توهموا  أن نبي الله عيس ى عليه السلام قد صُلب فأنشؤوا ديانتهم على جرف هار  في نار جهنم!  

واقترب أكثر لتشاهد ماذا يفعل الشيعة في يوم عاشوراء وهم متوهمو ن أنهم يثأرون للحسين ، ولن أحدثك عن  

 .الصوفية الغالية التي أوردتهم أوهامهم تجاه خالقهم مهاو ي الساخرين وأضحوكة الفاكهين

 

اذهب وقلب في صفحات التاريخ عن سير الجبابرة والطغاة،عن فرعو ن والنمرود وأبو جهل ،عن الحجاج وجنكيز خان ، عن هتلر ونابليو ن ،عن القذافي والأسد ،يقينا ستر ى أن الأوهام والأحلام في الملك  والسلطان والنفوذ هي محركهم ودافعهم الأ ول والأخير ، هذا يتوهم أنه يحيي ويميت وذاك يتوهم أن الأنهار تجر ي من تحته والأخير –وهي النكتة- يتوهم أنه لا ي زال رئيسا ! فبالله عليك من يتعاطى الوهم أكثر هؤلاء أم أصحاب الخمر والمخدرات؟!! اذهب وافتح قناة العربية وشاهد  مؤتمراً من مؤتمرات الدجل ،أو قمة من قمم العك،ماذا يفعلون؟لا شيء إنهم يتوهمون إنهم حضاريون ويتوهمون أنهم يتحاورون ويتهومون أنهم يتناقشون، ويستمرون في التعاطي ولكن بجرعات مخيفة ثم يصدرونها لشعوبهم !وكما نصحتك أن لا تسأل متعاطيا فمن باب أولى لا انصحك أن تفتح قناة العربية.   

 

 

إذا كان المتعاطي يزرع الوهم ويحصد السرب ،و التاجر يزرع الوهم ويحصد المال ، فإن المجتمع يزرع الوهم ويحصد الأصنام!  والطغاة يزرعون الوهم ويحصدون الدمار ! و من زرع حصد!.

 

إن الأوهام كالمرض الخبيث تتسرب إليك دون أن تشعر وتفتك بك و أنت تلهو ،ثم لا تشعر بها إلا وهي تغادرك بعد أسرت في قفصها.

بل هي كالشيطان تتشكل على هيئات  عديدة أخطرها تسمى "المشاعر"

تشعر بالحز ن ..تشعر بالفرح .. تشعر بالنجاح .. تشعر بالفشل ..تشعر بالكآبة .. تشعر بالعظمة .. بل تشعر بالعمق كما هي حالتي ! أوهام  نزرعها نحن في أنفسنا فذاك فقير سعيد وذلك غني حزين ،تلك فتاة تعد نفسها فاشلة لأنها تقصت علامة واحدة وفي المقابل تجد شاباً فرحا بسبب نجاحه بعلامة واحدة ، فانظر أين الخلل؟! كل يصنع عالمه بنفسه أو قل بوهمه يضع معاييره كيفما شاء ثم يحدد هو مشاعره الوهمية بناء على معاييره الوهمية في عالمه الوهمي ،  و يشبه هذا ما قاله الممثل الأمريكي (مورجان فريمان) : "مكمن العبقرية في إدراك حقيقة الوهم!! "

نسيت أن أنبه أن ديل كارينجي لم يمت منتحرا ،لقد كانت شائعة (متوهمة)!

فإن أردت وصفة  سحرية للنجاح فما عليك سوى انتقاء قفصٍ فخمٍ من الأوهام يليق بأحلامك وطموحاتك أو بشكل أصح أوهامك ،أما إن أردت أن تكو ن عبقرياً  وناجحاً في الوقت ذاته فاعلم أخي أن ما زلت تعيش في عالم  أوهامك!!   

 

  

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author