وحكي أنه كان بمدينة بغداد رجل يعرف بأبي عبد الله الأندلسي، وكان شيخا لكل من بالعراق وكان يحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ بجميع الروايات، فخرج في بعض السنين إلى السياحة، ومعه جماعة من أصحابه مثل الجنيد والشبلي وغيرهما من مشايخ العراق. قال الشبلي: فلم نزل في خدمته، ونحن مكرمون بعناية الله تعالى إلى أن وصلنا إلى قرية من قرى الكفار فطلبنا ماء نتوضأ به، فلم نجد، فجعلنا ندور بتلك القرية، وإذا نحن بكنائس وبها شمامسة، وقساوسة ورهبان، وهم يعبدون الأصنام، والصلبان، فتعجبنا منهم ومن قلة عقلهم.
ثم انصرفنا إلى بئر في آخر القرية، وإذ نحن بجوار يستقين الماء على البئر وبينهن جارية حسنة الوجه ما فيهن أحسن ولا أجمل منها وفي عنقها قلائد الذهب.
فلما رآها الشيخ تغير وجهه، وقال: هذه ابنة من؟ فقيل له: هذه ابنة ملك هذه القرية، فقال الشيخ: فلم لا يدللها أبوها ويكرمها ولا يدعها تستقي الماء؟ فقيل له: أبوها يفعل ذلك بها حتى إذا تزوجها رجل أكرمته وخدمته ولا تعجبها نفسها، فجلس الشيخ ونكس رأسه، ثم أقام ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ولا يكلم أحدا، غير أنه يؤدي الفريضة، والمشايخ واقفون بين يديه، ولا يدرون ما يصنعون، قال الشبلي: فتقدمت إليه، وقلت له: يا سيدي إن أصحابك ومريديك يتعجبون من سكوتك ثلاثة أيام وأنت ساكت لم تكلم أحدا، قال: فأقبل علينا، وقال:
يا قوم: إعلموا أن الجارية التي رأيتها بالأمس قد شغفت بها حبا، واشتغل بها قلبي، وما بقيت أقدر أفارق هذه الأرض.
قال الشبلي، فقلت يا سيدي: أنت شيخ أهل العراق ومعروف بالزهد في سائر الآفاق، وعدد مريديك اثنا عشر ألفا، فلا تفضحنا وإياهم بحرمة الكتاب العزيز. فقال يا قوم: جرى القلم بما حكم، ووقعت في بحار العدم وقد انحلت عني عرى الولاية، وطويت عني أعلام الهداية، ثم إنه بكى بكاء شديدا، وقال يا قوم: انصرفوا، فقد نفذ القضاء والقدر، فتعجبنا من أمره، وسألنا الله تعالى أن يجيرنا من مكره، ثم بكينا وبكى حتى أروى التراب.
ثم انصرفنا عنه راجعين إلى بغداد، فخرج الناس إلى لقائه، ومريدوه في جملة الناس، فلم يروه، فسألوا عنه، فعرفناهم بما جرى، فمات من مريديه جماعة كثيرة حزنا عليه وأسفا، وجعل الناس يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى أن يرده عليهم وغلقت الرباطات، والزوايا والخوانق، ولحق الناس حزن عظيم فأقمنا سنة كاملة، وخرجت مع بعض أصحابي نكشف خبره، فأتينا القرية، فسألنا عن الشيخ، فقيل لنا: إنه في البرية يرعى الخنازير، قلنا: وما السبب في ذلك؟ قالوا: إنه خطب الجارية من أبيها، فأبى أن يزوجها إلا ممن هو على دينها ويلبس العباءة ويشد الزنار، ويخدم الكنائس ويرعى الخنازير، ففعل ذلك كله، وهو في البرية يرعى الخنازير. قال الشبلي: فانصدعت قلوبنا، وانهملت بالبكاء عيوننا، وسرنا إليه، وإذا به قائم قدام الخنازير، فلما رآنا نكس رأسه، وإذا عليه قلنسوة النصارى، وفي وسطه زنار، وهو متوكىء على العصا التي كان يتوكأ عليها إذا قام إلى المحراب، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، فقلنا:
يا شيخ ما ذاك وماذا وما هذه الكروب والهموم بعد تلك الأحاديث والعلوم؟ فقال: يا إخواني وأحبابي ليس لي من الأمر شيء، سيدي تصرف في كيف شاء، وحيث أراد أبعدني عن بابه بعد إن كنت من جملة أحبابه، فالحذر الحذر يا أهل وداده من صده وإبعاده، والحذر الحذر يا أهل المودة والصفاء من القطيعة والجفاء، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: يا مولاي ما كان ظني فيك هذا، ثم جعل يستغيث ويبكي ونادى: يا شبلي اتعظ بغيرك.
فنادى الشبلي بأعلى صوته: بك المستعان وأنت المستغاث، وعليك التكلان. إكشف عنا هذه الغمة بحلمك، فقد دهمنا أمر لا كاشف له غيرك، قال: فلما سمعت الخنازير بكاءهم، وضجيجهم أقبلت إليهم وجعلت تمرغ وجوهها بين أيديهم وزعقت زعقة واحدة دويت منها الجبال.
قال الشبلي: فظننت أن القيامة قد قامت، ثم إن الشيخ بكى بكاء شديدا. قال الشبلي: فقلنا له هل لك أن ترجع معنا إلى بغداد؟ فقال: كيف لي بذلك، وقد استرعيت الخنازير بعد أن كنت أرعى القلوب؟ فقلت يا شيخ كنت تحفظ القرآن وتقرأه بالسبع فهل بقيت تحفظ منه شيئا؟
فقال: نسيته كله إلا آيتين، فقلت: وما هما؟ قال: قوله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ
«1» . والثانية قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ
«2» . فقلت: يا شيخ كنت تحفظ ثلاثين ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل تحفظ منها شيئا؟ قال: حديثا واحدا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» .
قال الشبلي: فتركناه، وانصرفنا، ونحن متعجبون من أمره، فسرنا ثلاثة أيام وإذا نحن به أمامنا قد تطهر من نهر وطلع، وهو يشهد شهادة الحق، ويجدد إسلامه، فلما رأيناه لم نملك أنفسنا من الفرح والسرور، فنظر إلينا، وقال: يا قوم اعطوني ثوبا طاهرا، فأعطيناه ثوبا، فلبسه،ثم صلى وجلس، فقلنا له: الحمد لله الذي ردك علينا، وجمع شملنا بك، فصف لنا ما جرى لك، وكيف كان أمرك؟ فقال يا قوم: لما وليتم من عندي سألته بالوداد القديم، وقلت له يا مولاي أنا المذنب الجاني، فعفا عني بجوده، وبستره غطاني، فقلنا له: بالله نسألك هل كان لمحنتك من سبب؟ قال: نعم. لما وردنا القرية، وجعلتم تدورون حول الكنائس قلت في نفسي: ما قدر هؤلاء عندي، وأنا مؤمن موحّد، فنوديت في سري ليس هذا منك، ولو شئت عرّفناك، ثم أحسست بطائر قد خرج من قلبي، فكان ذلك الطائر هو الإيمان.
قال الشبلي: ففرحنا به فرحا شديدا، وكان يوم دخولنا يوما عظيما مشهودا، وفتحت الزوايا، والرباطات والخوانق، ونزل الخليفة للقاء الشيخ، وأرسل إليه الهدايا، وصار يجتمع عنده لسماع علمه أربعون ألفا، وأقام على ذلك زمانا طويلا ورد الله عليه ما كان نسيه من القرآن والحديث، وزاده على ذلك.
فبينما نحن جلوس عنده في بعض الأيام بعد صلاة الصبح، وإذا نحن بطارق يطرق باب الزاوية، فنظرت من الباب، فإذا شخص ملتف بكساء أسود، فقلت له: ما الذي تريد؟ فقال: قل لشيخكم إن الجارية الرومية التي تركتها بالقرية الفلانية قد جاءت لخدمتك.
قال: فدخلت فعرفت الشيخ، فاصفر لونه وارتعد، ثم أمر بدخولها، فلما دخلت عليه بكت بكاء شديدا، فقال لها الشيخ: كيف كان مجيئك، ومن أوصلك إلى ههنا؟
قالت: يا سيدي لما وليت من قريتنا جاءني من أخبرني بك، فبت ولم يأخذني قرار، فرأيت في منامي شخصا وهو يقول: إن أحببت أن تكوني من المؤمنات، فاتركي ما أنت عليه من عبادة الأصنام، واتبعي ذلك الشيخ، وادخلي في دينه، فقلت: وما دينه؟ قال: دين الإسلام، قلت: وما هو؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقلت: كيف لي بالوصول إليه؟ قال: اغمضي عينيك، واعطيني يدك، ففعلت، فمشى قليلا، ثم قال:
افتحي عينيك، ففتحتهما، فإذا أنا بشاطىء الدجلة، فقال:
امضي إلى تلك الزاوية، واقرئي مني الشيخ السلام، وقولي له إن أخاك الخضر يسلم عليك، قال: فأدخلها الشيخ إلى جواره، وقال: تعبدي ههنا. فكانت أعبد أهل زمانها تصوم النهار وتقوم الليل حتى نحل جسمها، وتغير لونها، فمرضت مرض الموت، وأشرفت على الوفاة، ومع ذلك لم يرها الشيخ، فقالت: قولوا للشيخ يدخل عليّ قبل الموت، فلما بلغ الشيخ ذلك دخل عليها، فلما رأته بكت، فقال لها: لا تبكي، فإن اجتماعنا غدا في القيامة في دار الكرامة، ثم انتقلت إلى رحمة الله تعالى، فلم يلبث الشيخ بعدها إلا أياما قلائل حتى مات رحمة الله تعالى عليه.
قال الشبلي: فرأيته في المنام، وقد تزوج بسبعين حوراء وأول ما تزوج بالجارية، وهما مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليما. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
You must be logged in to post a comment.