القول في العقل

ينقسم العقل إلى قسمين؛ قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما، فأمَّا الأول: فهو العقل الغريزي المُشترَك بين العُقَلاء، وأما الثاني: فهو العقل التجريبيّ، وهو مُكتسَب، وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة؛ يُقال أنَّ الشَّيخ أكبر عقلًا، وأتمُّ دِرايةً. وإنَّ صاحب التجارب أكثر فهمًا وأرجح معرفةً، ولهذا قيل: "مَن بيَّضت الحوادث سواد لِمَّته، وأَخلقَت التجارب لباس جِدَّته، كان جديرًا برزانة العقل ورجاحة الدراية"، وقد يُخَصُّ بعض الأشخاص بالموهبة وزيادة المعرفة، تُخرِجه عن حد الاكتساب، ويصير بها راجحًا على ذوي التجارب والآداب. ويُستَدلُّ على حصول كمال العقل بما يصدر من أفعال وتصرفات، فإنَّ العقل معنى لا يمكن مُشاهدته، لأنَّ المشاهدة من خصائص الأجسام، ويُستدَلُّ عليه بأمور مُتعدّدة؛ منها: ميل الشخص إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنُّبه ما يُكسبه عارًا ويُورثه سوء السُّمعة، وقد قيل لبعض الحكماء: بم يُعرَف عقل الرجل؟ فقال: "بقلَّة سقطه في الكلام، وكثرة إصابته فيه"، فقيل له: فإن كان غائبًا؟ فقال: "بإحدى ثلاث؛ إمَّا برسوله، وإمَّا بكتابه، وإمَّا بهديَّته، فإنَّ رسوله قائم مقام نفسه، وكتابه يصف نُطق لسانه، وهديَّته عنوان هِمَّته، فبقدر ما يكون فيها من نقص يُحكَم به على صاحبها". وقيل: "مِن أكبر الأشياء شهادةً على عقل الرجل حُسن مُداراته للناس". وقالوا: "العاقل الذي يُحسِن المُداراة مع أهل زمانه". وقال علي بن عبيدة: "العقل مَلِك، والخِصال رعية، فإذا ضعف عن القيام عليها؛ وصل الخلل إليها". وقيل: "كلُّ شيء إذا كَثُر رخص، إلَّا العقل، فإنَّه كلَّما كَثر غلا". وقيل: "لكل شيء غاية وحد، والعقل لا غاية له ولا حد، ولكنَّ الناس يتفاوتون فيه تفاوت الأزهار في المروج". وقيل: "التجربة مرآة العقل"، ولذلك حُمِدت آراء المشايخ، حتى قالوا: "المشايخ أشجار الوقار لا يطيش لهم سهم، ولا يسقط لهم فَهم، فعليكم بآراء الشيوخ، فإنَّهم إن عُدِموا ذكاء الطَّبع؛ فقد أفادتهم الأيام حِيلةً وتجربة". وقال الشاعر: 

ألم تر أنَّ العقل زَين لأهله

                                  ولكن تمام العقل طول التجارب

وقال آخر: 

إذا طال عُمر المرء في غير آفة

                                  أفادت له الأيام في كَرِّها عقلا

وقال عامر بن قيس: "إذا عَقَلَكَ عقلُكَ عمَّا لا يعنيك فأنت عاقل". ويُقال: "لا شرف إلا شرف العقل، ولا غنى إلا غنى النفس". وقيل: "يعيش العاقل بعقله حيث كان، كما يعيش الأسد بقوته حيث كان". وقال الشاعر: 

إذا لم يكن للمرء عقل فإنَّه 

                            وإن كان ذا بيت على الناس هَيّن

وقال المنصور لولده: "خُذ عني اثنتين، لا تقل من غير تفكير، ولا تعمل بغير تدبير". وقال أردشير: "أربعة تحتاج إلى أربعة؛ الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة". وقيل: "أربعة تؤدي إلى أربعة؛ العقل إلى الرياسة، والرأي إلى السياسة، والعلم إلى التصدير، والحلم إلى التوقير". وقيل: "أفضل العقل معرفة العاقل لنفسه". وقيل: "العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق". وقيل: "غضب العاقل على فعله، وغضب الجاهل على قوله". وحكى بعض أهل المعرفة: "حياة القلب بالعقل، وحياة العقل بالعلم". وقال بعض الحكماء: "العاقل مَن عقله في إرشاد، ورأيه في إمداد، فقوله سديد، وفعله حميد، والجاهل من جهله في إغراء، فقوله سقيم، وفعله ذميم". وقد قال الأصمعي: "رأيت بالبصرة شيخًا له منظر حسن، وعليه ثياب فاخرة، وحوله حاشية وهرج، وعنده دخل وخرج، فأردت أن أختبر عقله، فسلَّمت عليه وقلت له: ما كنية سيدنا؟ فقال: أبو عبد الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. قال الأصمعي: فضحكت منه وعلمت قلة عقله وكثرة جهله، ولم يدفع ذلك عنه غزارة خرجه ودخله". 

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ٥, ٢٠٢٢, ٨:٤٨ ص - abdalrahim mohammad
يونيو ٢٧, ٢٠٢١, ٤:١٣ ص - WA
يونيو ١٨, ٢٠٢١, ١:٤٣ ص - Tahani
يونيو ١٠, ٢٠٢١, ٣:٢٢ ص - آلاء عرب
أبريل ٢٦, ٢٠٢١, ١٢:٢٢ م - Hussam AbuHamdia
About Author