الجمال والعقل البشري

الجمال والعقل!

إن تقدير الجمال وصفاته، وفقًا لتعريف أرسطو، من شعره (الترتيب، والتماثل، والتخطيط الواضح والوضوح)، هو أمر إنساني فريد.

يتطلب الإحساس بالجمال دماغًا معقدًا مثل الدماغ البشري؛ قادرًا على توليد الوعي الذاتي والأفكار والمشاعر والسمات العصبية التي لايمتلكها أي قردٍ أو أي حيوان آخر.

إنّ الجمال هو شعور لا يمكن أن يوّلد إلا في دماغ شخص متعلم داخل مجتمع معين، كما أنّ الجمال هو شعور ينشأ من الحوار الوظيفيبين الشبكات الموزعة للمناطق الحسية والترابطية في القشرة الدماغية، بالتزامن مع نشاط الدماغ العاطفي (الجهاز الحوفي).

في الواقع، الجمال هو المعرفة والعاطفة، وعلى هذا النحو، فهو فردي أيضًا، لأنه ينشأ من الذكريات والتجارب الشخصية في تناغم داخل الثقافة التي نعيش فيها.

يستحضر تقدير الجمال عندما يواجه شخص ما لوحة لفيلازكويز، أو الألوان المؤذية لفان جوخ، أو منحوتة رودين، أوالقوة المتناغمة والإيقاعات الرفيعة في موسيقى بيتهوفن، أو الهندسة المعمارية الفخمة لساغرادا فاميليا لغاودي، تتطلب درجة عالية من الوعي البصري والسمعي، وتعليم راقي في الإدراك الحسي؛ لكن الجمال يمكن أيضًا أن يستحضر إلى ما وراء العالم الحسي في الأفكار! بالطبع، يمكن للفيزيائي أن يتحدث عن جمال النظرية النسبية العامة. في هذه الأيام، تظهر فرضيات جديدة في علم الأعصاب، بناءً على الأدلة العلمية، حول كيفية بناء الدماغ للتجريدات (الأفكار) التي تشكل اللبنات الأساسية للمعرفة، نحن نعلم أن هناك شبكات في الدماغ تستجيب فيها الخلايا العصبية لمنظور واحد لكائن (الشكل والتوجيه والعمق) ولكن ليس لوجهات النظر الأخرى.

نحن نعلم أيضًا أن هناك خلايا عصبية تستجيب لعرض الكائن بأكمله بغض النظر عن المنظورالمقدم، مما يعطي مؤشرًا محتملاً على أن هذه الخلايا العصبية الأخيرة تقوم بتجميع جميع الآراء من الخلايا العصبية السابقة.

 إذ تستجيب بعض هذه الخلايا العصبية ليس فقط للكائن المحدد المعروض وإنّما لأشياء مختلفة ذات أشكال وألوان متشابهة، لقد تم اقتراح أن دوائرعصبية معينة تحتوي على هذه الخلايا العصبية الأخيرة هي المسؤولة عن بناء التجريدات أو كائن "مثالي" يمكن أن يستوعب العديد منالأشياء المختلفة ضمن نفس الفئة. لذلك، عندما تظهر لنا الطبيعة مئات الطيور من جميع الأشكال والأحجام والحركات والألوان والأغاني والسلوكيات المختلفة، يكون الدماغ قادرًا على خلق مفهوم وفكرة "الطائر" الذي يلخص جميع الطيور في العالم، فهذا الطائر "العالمي" هوتجريد تم إنشاؤه بواسطة الدماغ، وهو مثال مثالي لطائر غير موجود ولا يمكن أن يوجد في الواقع، وبالتالي يصنع "جوهرًا نقيًا وثابتًا للطائر"، كما افترض أفلاطون؛ هذه هي الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري، من خلال تصنيف وتصنيف العالم الحسي من خلالالمفاهيم والأفكار، باستخدام هذه العملية القائمة على الدماغ للوعي والتجريد، حقق الإنسان المبادئ الأساسية للفكر واللغة والفن والتواصل،كما أن الفن، في الواقع؛ هو الإدراك التجريدي والرمزي، بالإضافة إلى العاطفة.

كما نعرف جزئيًا كيف يصل تدفق المعلومات الحسية عبر المحاور والإيماءات المختلفة الموجودة في المناطق الحسية من القشرة الدماغية إلىالمناطق العاطفية في الدماغ، ففي هذا المجال الأخير يتم تصنيف المعلومات الحسية بالمكافأة أو العقوبة أو المتعة أو الألم، وبعد هذاالتصنيف العاطفي يتم تطوير العمليات المعرفية في مناطق الارتباط في القشرة الدماغية.

لذلك، فإن دماغ الفنان، وخاصة عقل الفنان، يعمل بالفعل بأفكار وتجريدات ذات مغزى عاطفيًا؛ حيث يجب أن يكون هذا مناسبًا جدًا لفهم فعل الخلق وقدرة العمل الفني على استحضار الجمال، لكن ما يبدو أكثر إثارة للاهتمام عند الحديث عن الجمال، خاصة فيما يتعلق بالأفرادالذين يفكرون في عمل فني؛ هو أن الجمال بالحقيقة لا يوجد في حقل العمل الفني، حيث إن الجمال أصيل وشخصي، يصنعه أولئك الذين يفكرون في العمل الفني.

وبعبارة أخرى، سيخلق الناظر في دماغه بشكل نشط تصوره الخاص للجمال والذي قد يتضمن المعرفة (التجريد أو الفكرة) والعاطفة والمتعة (متعة الطبيعة، كما يشير إيمانويل كانط، إذ تنطوي على قدر أقل من الشبع والحيوية مزيد من المتانة).

كل هذا يقودنا إلى فهم كيف يمكن العثور على عمل فني جميل للعديد من الأشخاص ولكن ليس للآخرين، أو كيف يمكن تقدير جمال فكرةمن قبل شخص واحد فقط في العالم، أو على العكس من ذلك، كيف يمكن لملايين الناس التعرف على منحوتة أو لوحة أو أي قطعة فنية أخرى على أنها جميلة!

أمّا في الواقع، فيبدو أنه عندما تحدث هذه العملية الشخصية الإبداعية للجمال في عدد كبير من الناس أمام تحفة معينة، عندئذٍ يتم التعرف على العمل على أنّه عمل سامي عالميًا!

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ٥, ٢٠٢٢, ٨:٤٨ ص - abdalrahim mohammad
يونيو ٢٧, ٢٠٢١, ٤:١٣ ص - WA
يونيو ١٨, ٢٠٢١, ١:٤٣ ص - Tahani
يونيو ١٠, ٢٠٢١, ٣:٢٢ ص - آلاء عرب
أبريل ٢٦, ٢٠٢١, ١٢:٢٢ م - Hussam AbuHamdia
About Author