بعضُ من رماد!!

 

 

 بَعْد عَنَاء طَوِيلٌ مَعَ سَاعَاتِ النَّهَارِ فِي السَّعْيِ خَلْف أهْدَافَه وخوض غِمَار تجاربة عَادَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ إلَى بَيْتِهِ الْمَكَانِ الَّذِي يُشْعِر بِالطُّمَأْنِينَة فِيه ، الَّذِي تَضُمّه أَرْكَانِه بحضنها الْوَافِر بِالْأَمَان وَمَع إقترابه مِن الْمِنْطَقَةَ الَّتِي يَسْكُنُ فِيهَا شَاهد دُخانٌ أَسْوَدُ يَتَصَاعَد شَعَرَ بِإنْقِبَاضٍ فِي صَدْرِهِ وتمتم لِنَفْسِه قَائِلًا عَسَاه خَيْرًا 

 

وَحِين تَأَمَّلَ تِلْكَ الأدخنه تَسَائل ياترى تِلْك الأدخنه أَرْوَاح بَشَرِيَّة أَم رَوْحٌ أَشْيَاءَ لَا مَعْنَى لَهَا لِلنَّاس وَلَكِن تَعْنِي لِإِنْسَان واحد فقط بِمَعنى حَيَاة، 

 

وهاهو يَقْتَرِب ودقات قَلْبِه تَتَسَارَع وَجَسَدِه تُعْلِن إنْذَار الْخَوْفِ فِي كُلِّ أَرْكَانِه 

 

ويشتعل صَدْرِه ذُعْرًا كُلَّمَا اِقْتَرَبَ مِنْ بَيْتِكَ وَرَأَى الدُّخَان بِوُضُوح 

 

وهاهو وَجْهاً لِوَجْهٍ إمَام بَيْتِه 

 

نَزَل مُسْرِعا مِن سَيَّارَتِه حَاوَل الدُّخُول وَلَكِن مَنَعُوه قَالُوا لَهُ أَنْ لَا أَحَدَ بِالْبَيْتِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْكُلّ بِأَمَان 

 

وَالْخَسَارَة بِالْمَالِ لَا بِالْأَرْوَاح 

 

سَقَطَت دُمُوعُه مُحَاوَلَة إِخْمَاد تِلْك النِّيرَان الَّتِي تَشْتَعِل بِهِ لَا بِالْبَيْت 

 

لَم يَحْتَرِق الْبَيْتِ فَقَطْ ، كَمَا كَانَ يَنْظُرُ الْجَمِيعَ كَانَ هُوَ مِنْ يَحْتَرِق هُوَ بِكُلِّ لَحَظَاتُه الْمَاضِيَةِ وَ ذِكْرَيَاتِه الْجَمِيلَة وَأَصْدِقَاءَه الْمُقَرَّبُون جِدًّا مِنْه ، مَاتَ كُلُّ مِنْ يَعْرِفُهُ حَتَّى هُوَ كَانَ يَمُوتُ ببطئ خَرَّ عَلَى الْأَرْضِ يَرَى بَعْضُه يَأْكُل بَعْضُه ، يَشْهَد نِهَايَتِه قَبْل النِّهَايَة 

 

يُشْعِر بِعَجْزِهِ عَنْ إنْقَاذ نَفْسِه رَغِم أَنَّهُم يَرَوْنَه قَدْ نَجَا لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ عَكْسُ ذَلِكَ 

 

وَكُلَّمَا اِشْتَعَلَتِ النِّيرانُ أَكْثَر فَأَكْثَر سُمِعَ فِي دَاخِلِهِ صَرَخَات الِاسْتِغَاثَة وَالْأَلَم وَالْوَجَع وَأَنِين الِاحْتِضَار واختناق الرُّوح وزفراتها الْأَخِيرَة كَانَتْ تِلْكَ الأدخنة أَجْزَاء رُوحَه الَّتِي تَرْحَل لِلسَّمَاء بِلَا وَدَاعٍ بِلَا شَاهِدٌ يَبْكِي عَلَيْهِ وَيُذْهَبُ كُلَّمَا ضاقَ بِهِ الْكَوْن ليتحدث مَعَه 

 

كَانَتْ الْقُبُورُ تُحْفَر فِيه للحظات عُمْرَة الَّتِي غَادَرْته وَلَم تَأْخُذُه مَعَهَا ، شَعْرٌ أَنَّ كُلَّ مِنْ رَحَلُوا عَنْه رَحَلُوا الْآن وَلَكِن بِصُورَة مُؤْلِمَة أَخَذَ مِنْهُ الْقَدْرَ حَتَّى رَحِيقٌ تِلْك الْأَرْوَاح ، الَّتِي كَانَتْ بِمَثَابَةِ أُوكْسِجِين لَه يَجْعَلُهُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ 

 

لَمْ يَلْحَظْ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ يَمُوتُ كَالشَّجَر وَاقِفًا ، يَتَحَوَّل لرماد 

 

وَفِي احْتِضَارِه شَارَكَتْه السَّمَاء حُزْنِه فَهطَلٌّ الْمَطَر 

 

مَطَر مَطَر 

 

لَم يَرْقُص تَحْتَه كَعَادَتِه لأَوَّلِ مَرَّةٍ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَبْكِيَ وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ وَيَعْتَقِدُون أَنَّ تِلْكَ الْقَطَرَات الَّتِي تَنْسَكِب عَلَى وَجْهِهِ هِي قَطَرَات مَطَر ؛ اخْتَلَط حُزْن السَّمَاء بِحُزْنِه وَأَخْمَد الْحَرِيق وَلَكِنْ لَمْ يَتْرُكْ سِوَى الرَّمَاد 

 

الْبَيْتِ كَانَ كُلٌّ مَا تَبَقَّى لَهُ مِنْ رَائِحَةِ وَالِدَيْه 

 

كَانَ يَجِدُ الْأُنْس بذكرياتهم مَعَهُ فِي كُلِّ رُكْنٍ وَزَاوِيَة كَان يحتضن صُوَرُهُم حِين يَخْلُد لِلنَّوْم وَحِين يَسْتَيْقِظ يَبْدَأ صَبَاحَة بِهِم ، الْيَوْمَ هُوَ يُشْعِر باليتم لِلْمَرَّة الثَّانِيَةِ هُوَ يُشْعِر بِالْفَقْد لِلْمَرَّة الثَّانِيَة 

 

فَقَد كُلِّ شَيِّ بَل فَقَد نَفْسِهِ فَلَمْ يُعِدْ يَعْرِفُ مِنْ هُوَ ؟ ! ! ! مَنْ كَانَ وَكَيْف عَاش ، وَمَنْ هُوَ الْآنَ ! ! 

 

كَشَجَرَة اِقْتَلَعْت مِن جُذُورَها وَرُمِيَت عَلَى قَارِعَةِ الْحَيَاة 

 

فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الدوامات الَّتِي كَانَ يعيشها هَذَا الْإِنْسَانُ وَمَن هَوْل الصَّدْمَة الَّتِي هزت جَمِيع أَرْكَانِه 

 

أَخَذَه جَارِه لِيَسْتَرِيح فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَعُودَ لِوَعْيِه 

 

أَدْخَلَه لغرفة الضُّيوف جَلَس كالصنم بِلَا حَرَاك وَبِلَا كَلِمَةٍ وَفِي لَحْظِهِ وَاحِدَةً غَطّ بِنَوْم عَمِيق وَكَأَنَّه يَهْرُب ! ! ! 

 

تَرَكَه الْجَارُ فِي الغُرْفَةِ لِيَأْخُذ رَاحَتِه 

 

وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي اسْتَيْقَظ مُسْتَغْرَبًا مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يَنَامُ فِيهِ ! ! 

 

وماهي إلَّا دَقَائِق اِسْتَعَاد فِيهَا وَعْيِه وَتَذَكَّر مَا حَلَّ بِهِ 

 

وَثَب بِسُرْعَة وَانْطَلَق لِبَيْتِه 

 

فَتَحَ الْبَابَ وَجَد كُلُّ مَا فِيهِ رَمَادًا وَصَوْت بُكَاء الْجُدْرَان يزئر فِي عُقْرِ دَارِهِ تِلْك الْجُدْرَان الَّتِي ارْتَدَّت لِبَاسٌ الْحَدَّاد 

 

تِلْكَ الَّتِي شَهِدَتْ مَوْت الْجَمِيعُ وَهِيَ تَتَأَلَّم وَاقِفَة تَمَامًا كَمَا حَدَّثَ مَعَه وَجَد أَنَّه يُشْبِهُهَا كَثِيرًا هُوَ أَيْضًا كَانَ كَالْجِدَار عَاجِزًا رَغِم حَرَكَتِه لَمْ يَسْتَطِعْ إنْقَاذ عُمْرَة وَأَهْلِه وَحَيَاتِه الّتِي أَكَلْتهَا النَّار بِلَا رَحْمَةٌ وَلَا شَفَقَة ! ! ! 

 

دَخَل لِأَكْثَر الْأَمَاكِنِ الَّتِي شَهِدَتْ ثوراته الْفِكْرِيَّة وتقلباته

 

المزاجيه وزلازلة الشعورية 

 

ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي يُحْمَلُ جَمِيعُ تناقضاته كُلّ أَلْوَانِه تُشِير لطباع شَخْصِيَّتُه وَكَانَت عناوينه تَدُلُّ عَلَى تَنَوُّع فَكَرِه 

 

كَانَ يَحْمِلُ حَيَاة بأكملها ذَلِكَ الْمَكْتَبِ ، الْخَاصِّ الَّذِي وُضِعَ كُلِّ كِتَابٍ فِيهِ بَعْدَ أَنْ اخْتَارَ أَنْ يَهْدِيَهُ بَعْضًا مِنْ سَاعَاتِ أَيَّامِه كَانَت رفَوفة تَحْمِل أَيَّام واسابيع وَشُهُور عُمْرَة 

 

وَجَد كُلِّ شَيِّ رَمَاد ! ! 

 أَطْلَق صَرْخَة عَصَفَت بِرَمَاد الْمَكَان ! ! 

 وَبَدَأ يَتَحَدَّث 

 كَيْف يَبْدَأ الْإِنْسَانِ مِنْ الصُّفْرِ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مِنْ الْعُمْرِ الْكَثِيرِ ! ! 

 مَا قِيمَةُ مَا سَيَكُونُ مُقَارَنَة بِمَا كَانَ ! ! 

 هَل ستعود لِي نَفْسِي الَّتِي كَانَتْ الَّتِي كُنْتَ كُلَّمَا افتقدتها واشتقت إلَيْهَا جَلَسْت مَعَ ذكرياتها مَعَ أَيَّامهَا مَع رفاقها مَع هداياها ورسائلها و تناقضاتها لأعيد لِنَفْسِي بَعْضُ مَنْ نَفْسِي ! ! 

 مَاذَا أَفْعَل الْآنَ حِينَ اِشْتَاق إلَيْهَا أَيْنَ أَذْهَبُ وَمَاذَا أَشَاهِدٌ وَمَاذَا سَأجِدٌ ؟ ! وَكَيْف أَعُود ! ! 

 لَم يَتَبَقَّى مِنِّي سِوَى صُورَة لشي مِن الْمَاضِي رَحَل وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ أَثَرٌ ! ! 

 لَم يَبْقَى لِي سِوَى ومضات ذِكْرَى تُعَبِّر مِن ذاكرتي وَحَتَّى تِلْك الذَّاكِرَة مهدددة بالانقراض والتلاشي ! ! 

 لِمَاذَا اخْتَار الْقَدْرِ هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي اِنْطَفَأَت فِيهِ عَنْ كُلِّ ماهُو جَدِيد وَكَان عالمي الْوَحِيد هُوَ مَا كَانَ لِي فِي الْمَاضِي مِنْ ذِكْرَيَات مَعِي وَمَعَ مَنْ أَحَبَّ وَمَعَ مَنْ غَابَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ ! ! 

 لِمَاذَا فِي وَقْتِ نَفَاذ طَاقَتَي للبدايات أعادني الْقَدْرُ مِنْ الصُّفْرِ ؟ ! َلكن دُونَ أَنْ يعيدني لِتِلْك الْبِدَايَة وَمَعَ مَنْ كُنْتُ مَعَهُم وَفِي الْعَمْرِ الّذِي بَدَأَت مِنْهُ وَهُوَ أَوَّلُ صَرْخَة لِي احْتِجَاجًا عَلَى نَفْيِي مِن عَالَمَي الْجَمِيل ! ! 

 لَا طَاقَةَ لِي أَيُّهَا الْقَدْر بِالْبِدَايَة وَلَا مَعْنَى لَهَا بَعْدَ أَنْ اُنْتُزِعَت مِنِّي كُلّ ماتبقى لِي مِنْ رَوْحِ 

 قَد تَظُنّ إِنَّك أَبْقَيْتَنِي حَيًّا فَقَطْ لِأَنِّي جَسَدًا يَتَحَرَّك وَلَكِنَّك تَعْلَمُ أَنَّ الجُثَث قَد تَتَحَرَّك حِين تَتْرُك بِلَا شُعُور فالروح هِي الشُّعُور الَّذِي يَسْكُنُ الْأَجْسَاد لَيْس فَقَطْ مَا يُحَرِّكُهَا ! ! 

 أَنَا ذَلِكَ الرَّمَادِ اُنْظُرْ هَذَا الَّذِي بِقَبْضِه يَدَي ، هُوَ أَنَا 

 كَانَ يَحْمِلُ كَوْمَة مِنْ الرَّمَادِ فِي يَدِهِ أَخَذ نَفْسًا عُمْقًا َونفخ عَلَيْه ليتطاير وَقَالَ هَكَذَا هُوَ الْإِنْسَانُ كَوْمَة رَمَاد تتلاشى بنفخة وَاحِدَة َولا يَبْقَى مِنْهُ شَيْئًا 

 أَصْبَح يَرَى فِي كُلِّ رَمَاد شَيّ مِن بَقاياه 

 وَيسْأَل ذَلِكَ الرَّمَادِ تُرَى مَاذَا كُنْت فِي سِيرَتَك الْأُولَى ؟ ! 

 هَلْ كُنْت بَعْضِ كَلِمَاتِ أَم بَعْضِ صُوَرِ أَم بَعْضُ مَنْ رسومات أَم بَعْضُ مَنْ أزْهَارٌ مَاذَا كُنْت وَهَل مَازِلْت تَحْمِل هويتك الْأُولَى أَمْ إِنَّك أَصْبَحْت مِثْلِي قطعا  مُتَطَايِرة فِي الجَوِّ ويظنك الْآخَرِين مَوْجُودًا ! !

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٨ ص - عاهد الزبادي
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١١:٠٠ م - Mohamad Choukair
ديسمبر ٩, ٢٠٢١, ٣:٣٢ م - بلقيس محمد
نوفمبر ٢٥, ٢٠٢١, ٤:٥٨ م - وريد فواز
About Author