تجربة في الحياة
لا تلوموني ، فقد كنت طالبة جامعية مجتهدة ، ومحسودة من قبل زملائي وبالذات زميلاتي ، كان عقلي كتاباً متنقلاً، وكان هدفي في الحياة أن أتخرج وانخرط في سوق العمل ، أبي كان فقيراً ولمّا يزل، تزوج أمي التي هي ابنة عمه ، وطال انتظارهم للمولود سنين عجاف عدداً ، فجئت أنا وأغلقتُ الباب_ كما تقول نساء القرية _خلفي فلم يرزق والدّي سواي ، نعم كنتُ طفلة مُدلله وكسولة في أعمال البيت ، وما أن كبرت حتى عرفت الحقيقة ، قالتها لي بنت قريتي الجامعية الحاقدة الحاسدة ، " أنتِ طفلةُ أنابيب " ، وحين سمعتها بعد نهاية إحدى المحاضرات في مادة علم الاجتماع الديني ، حتى بدت الأرضُ تدور بي ، والعرق يتصببُ من جبيني ،كنتُ أسكن في سكن الجامعة ، رجعت في نهاية الأسبوع الى بيتنا في القرية ، قلتُ لأمي : هل حقاً أني طفلة أنابيب ؟ مسكت أمي بيدي .. أحسستُ أن يدها قطعةٌ من جليد ، شعرتُ أن لهيب النار يحرق جوفها ، هرولتْ الى المطبخ ، جلبتْ كأساً من ماء بارد لعله يطفيء الحريق في قلبها ، ساد زمنٌ من صمتٍ وحزن ، حاولت أمي أن تَلُمَّ فوضى مشاعرها التي اجتاحتها حين ألقيتُ عليها السؤال / القنبلة /، سحبت يدها من يدي ، و أسرعت الى المطبخ لتجهز طعام الغداء .
خلعتُ ملابسي في غرفتي المتواضعة، ألقيت بها على السرير الحديد، لبست بيحامتي ذات اللون الأحمر، طفقتُ أتجولُ في أركان بيتنا المتواضع ، غسالة كهربائية ذات الحوضين قديمة ، غاز ثلاثة عيون مهتريء ، طناجر وصحون وكاسات كالحة ، أحذية والدي يعلوها الغبار، بدلة والدي العسكرية ملقاة على كنبة في غرفة الجلوس، تأملت الرتبة العسكرية المثبتة على ذراع والدي، أنها ثلاثة شرائط وتاج، لقد كان أبي "رقيب أول" ، وعلى وسط الحائط كانت تنام بهدوء صورة كبيرة لوالدي ووالدتي يوم زواجهم، ، أحاسيس مبعثرة هنا وهناك ، مصحف معلق فوق رأس أبي ، لعله يقرأ فيه سورة الكهف يوم الجمعة ، هو هكذا يبدو دائماً "معذب، مشغول ، وصامت" ، فقط ينظر اليّ نظرةَ محبةٍ مَشوبةٍ بشيء غريبٍ ما زلتُ لا أعرف كنهها بعد.
ماذا يعني أني طفلة أنابيب ... قلتُ في نفسي... وتذكرتُ أني قرأتُ في الجامعة روايه اسمها " فئران الأنابيب" ارتد وجعٌ وصراخٌ من أعماق بئر قلبي ... أنا لست لقيطة إنه أبي .... إنها أمي ... الآن فقط ....الآن ... أدركت سر هروب إبن عمي الذي أحبني وكان عاقدَ العزم على خطبتي بعد تخرجي ... لعلها زميلتي الحاقدة هي التي أخبرته أني طفلة أنابيب ، أغلقتُ على نفسي باب غرفتي، ولم أصغ السمع لصوت أمي وهي تنادي تعالي يا "فطوم" الغداء جاهز ، أخرجت رواية شرق المتوسط لعبدالرحمن منيف من حقيبتي وطفقت أقرأ .
You must be logged in to post a comment.