في رائعته (في قبوي) يحاول دوستويفسكي فهم ظاهرة الغباء التي تعضدها آلاف الوقائع عبر تاريخ الإنسانية، والتي تدفع البشر إلى الحياد عن طريق الخير الذي يحقق لهم مصلحتهم وفائدتهم واتخاذ طرق أخرى ملغومة بالمخاطر والصعاب. يقول دوستويفكسي : "قد تجد إنساناً يتهكم على عماوة الأغبياء الحمقى الذين لا يفهمون لا مصالحهم الحقيقية ولا القيمة الحقيقية للفضيلة، ولكن ما إن ينقضي ربع ساعة، ربع ساعة على وجه الدقة والتمام، حتى نراه يقوم بعمل سخيف أو يرتكب حماقة، دون أي سبب غير اندفاع داخلي أقوى من جميع اعتبارات المصلحة والمنفعة، يجعله يعمل على نقيض جميع القواعد التي ذكرها، على نقيض العقل، على نقيض مصالحه".
لماذا نفعل ذلك؟ ربما لأن للحرية جاذبية براقة أكبر من جاذبية المصلحة مثلاً؟ ربما هو عطش الكائن البشري لبلوغ الشعور بالاستقلالية حتى لو أنه سار في الطريق الخطأ، هذه هي التيجة التي يصل إليها بطل الرواية، فالإنسان من وجهة نظره - ولو بلغ أقصى مراتب السعادة والخير - لا بد له في النهاية من ارتكاب بعض الحماقات التي يلوث بها كل ما سبق ليبرهن لنفسه على حرية إرادته وعلى أنه ليس مجرد ترس في آلة.
ولنا في مقابل ذلك أن نفكر في الغباء كضمان للاستمرارية أو كرهان وجودي يمنح أصحابه فرصاً أكبر وحظوظاً أوفر في البقاء، لدى الأغبياء مثلاً القدرة على مسايرة قوانين الطبيعة والالتزام بمشروطية الواقع دون محاولة تغييره ولديهم أيضاً القدرة على التبسيط وليس عندهم من التهويمات والافتراضات ما يعكر صفو حياتهم ويجعلها بالغة التعقيد، لذلك يقرر البعض أن يصبح غبياً ليعيش حياة أكثر سعادة، فينضم بطريقته إلى جو الغباء العام وينغمس في حماقة الحياة المعاصرة والمجتمع الاستهلاكي، متكيّفاً مع وضعه كشخص طبيعي يشتري ويُنفق ويستهلك ويفكر كالجميع!
You must be logged in to post a comment.