أغراض الشعر الجاهلي ـ 3 ـ
توطئة : اليوم نتابع حديثنا عن غرض الرثاء في العصر الجاهلي مع شاعرة الرثاء في العصر الجاهلي بعد المهلهل ألا وهي الخنساء ، هيا بنا نعش قصتها مع الرثاء الذي كان جل شعرها ، مع أنها قالت الشعر بالفخر والمدح والوصف .
ثانياً : الخنساء : هي" تـُماضِـر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُلَمية "575م ت 665م" فقد كانت أشعر شواعر العرب في الجاهلية والإسلام مخضرمة، وأجودهن ، وأطولهن بكاء على أخ ، وشهرتها الخنساء لخنس في أنفها ، والخنس في اللغة "تأخرالأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة " وهي صفة مستحبة أكثر ما يكون في الظباء ، وبقر الوحش ، كان أبوها سيد قومه وأخواها صخر ومعاوية سيدين فارسين ، عرفت برثائها لأخويها " صخرومعاوية"اللذَيـْن قـتلا في الجاهلية ، اتصفت بجمالها الأخّاذ وتقاسيمها المتناسقة ، وهي ذات حسب وجاه وشرف ، كانت الابنة الوحيدة في أسرتها ، لذا كانت محل رعاية أسرتها وخاصة أخويها ، كانت عاقلة حازمة ، رفضت الزواج من " دريد بن الصمة" فارس هوازن وسيد بني جـُشـَم ، وهكذا كانت الخنساء قوية الشخصية ، محترمة الرأي ، شديدة الحب لقومها الأقربين ، تزوجت من رواحة بن عبد العزى الذي كان شاباً صاحب لهو مقامراً ، ينفق ما بيده في الميسر ولا يبقي شيئاً وقد ضحت كثيراً من أجل الحفاظ على حياتها معه ، فاستغل ذلك منها وانتهز مالها ومال أخيها ، حيث كانت تشكو حالها وضيق العيش إلى أخيها صخر، فيشطر ماله نصفين ويعطيها خيرهما ، ثم انفصلت عن زوجها "رواحة" ، ولها منه ابن اسمه " عبد الله وقيل عمرو" ثم تزوجت مرداس بن عامر السلمي ، الملقب بالفيض لسخائه ، وتشاء الأقدار أن يختطفه الموت ، تاركاً لها أربعة أبناء وابنة ، ورَثـَتْه الخنساء فقد كان مرداس في رأيها أفضل الناس حلماً ومروءة وشجاعة ، وربما وجدت عزاء في أخويها ـ ولا سيما صخراً ـ ولكنهما قـُتلا ، فأفجعها الخطب ، وفجّر شاعريتها ، حتى غدت لا تعرف إلا النواح والبكاء ، فقد قـَتَل هاشم ودريد ابنا حرملة من بني مـُرّة أخاها معاوية ، إن الخنساء عانت من جراحات كثيرة ، فأصيبت بأبيها فذاقت اليتم ، وفي زوجها فترملت ، وفقدت أخويها فأظلمت دنياها ، بكتهما بكاء شديداً حتى فقدت بصرها ، كانت في أول أمرها تقول البيتين والثلاثة ، فلما قـُتل أخواها انساب الشعر على لسانها ، وفاضت معانيه وألفاظه ومن رثائها لأخيها معاوية :
1. ألا مــا لعـيـنـي ! ما لـهـا ! وقد أخضل الدمع سربالها !
2. أبعد ابن عمرو من آل الشريــ ــد حلـت بـه الأرض أثقالـهـا
3. يـد الدهــر آسـى على هالـك وأســـأل نائـحـة مــا لـهـا ؟
4. لـعـمـر أبـيـك لـنـعـم الفتـى تـحـشّ بـه الـحـرب أجـذالـهـا
5. كفانا ابن عمرو ولم يستعِنْ ولـو كــان غـيـرك أدنـى لهــا
6. فــإنّ مـُـرّة أودت بـــه فـقــد كـان يكـثـر تـقـتـالـهـا
7. فـيـومـاً تـراه عـلـى هـيـكـل أخـا الحـرب يلـبـس سربـالـهـا
8. ويومـاً تـراه عـلـى لــذة وعـيـش رخـيٍّ فـقـدنـا لـهـا
9. فخَرّ الشوامــخُ مـن قـَتْلـه وزلـزلـت الأرض زلـزالـهــا
بشكل عام هنا تتفجع الشاعرة على مقتل أخيها معاوية في الأبيات الأربعة الأولى ، ولكنها تذكر مواقف ومواطن القوة والشجاعة عند أخيها في المعركة ، وكيف أنه حامي القبيلة الذائد عن حماها في الأبيات التالية .
وقد رثت أخاها صخراً بقصائد فاقت سواها شهرة في الرقة وقوة العاطفة ، ومراثيها على الغالب قصيرة وأطولها قصيدة لها وهي" الرائية":
1. قـذى بعـَيـْنـِكِ أم بـالـعـيـن عـُـوَّارُ؟ أم ذرَّفـْـتْ إذ خـلَـتْ من أهـلها الـدار
2. كـأنّ دمـعـي لــِذكـراه إذا خـطـرت فيـضٌ يسيـل على الخـديـْن مِـدرار
3. تبكي لِصخر هِي َالعَبْرى وقد وَلَهتْ ودونـه مـن جـديـد الـتُـرْب أستـار
التعليق : في البيت "1"استفهام حذفت الهمزة من أوله ، وتقديره : أقذى بعينك .. والقذى هو ما يقع في العين فيدمعها ومثله العوار والمعنى : تًسائل الخنساء نفسها وكأنها امرأة أخرى غيرها وهذا أسلوب تجريد ، فتقول: أصاب عينك قذى أم عوار فهي تدمع دمعاً متواصلاً بلا انقطاع أم بكت حين خلت الدار من أهلها لوقوع الموت ، والخنساء في مطالع رثائها تكثرمن ذكرعينيها ومخاطبتهما ، وتكثرمن الاستفهام لإفادة الحيرة والتردد والتأمل والدهشة في نفس المتلقي ، وقد أعطت الخنساء خيارات لما يجعل عطباً أو خللاً في عينها ، ولنا الخيار في استنتاج المقصود ، ، فهي إما أن تبدأ بوصف دمعها الجاري وعبراتها المدرارة وما تعاني عينها من ألم البكاء والحسرة "كما في قصيدتنا هذه" أو تخاطب عينيها داعية إياها لبذل الدموع ، والجود بها تعبيراً عن مشاعر الحزن والأسى كقولها في صخر:
أعينيّ جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريْء الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا
وقالت في رثاء معاوية :
يا عين جودي بالدمو ع المستهلاّت السَواجم
فيضاً كما انخرق الجُما ن وجال في سلك النواظم
4. تبكي خـُنـاس فـما تنـْفـَكُّ ما عـَمـَرتْ
لـهـا عـليـه رنـيـنٌ وَهْـيَ مِـفْـتــار
خناس هي الخنساء يقال للتحبب ، ما عمرت : ما عاشت ، رنين ، بكاء وعويل ، مفتار: واهية القوة منكسرة القلب ، تقول : سأظل أبكي صخراً ما حييت ، وإن بي عليه عويلاً وبكاء وحزناً مسموعاً "صياحاً بصوت عالٍ" وأنا مقصرة تجاهه ولم أوفه حقه من الدموع والأسى ، لأنها كانت تجد فيه العزاء بعد موت زوجها ثم مقتل أخيها معاوية ، ولم يبق لها بعد معاوية سوى صخر يعينها على نوائب الدهر وتربية أيتامها . وكأن القدر أبى أن يبتسم لها ، فقد أصيب صخر بطعنة ألزمته الفراش سنة كاملة ، وأقعدته عن السعي ، وحالت بينه وبين كرّ وفرّ، فآلمها مرضه ، وأحزنها مصيره ، حتى وافته المنية . فحريّ بها أن تبكيه وتعلن الحداد عليه ، وأن تقضي دهرها في حزن دائم ولا تجف لها عبرة ، ولا تنقطع لها آهة ، لأنها باتت كسيرة النفس والقلب موجعة الفؤاد مهدودة القوى .
5. مشى السَّبْنَتى إلى الهيجـاء مُعضلـة لــه سـلاحـان : أنـيـاب وأظْـفــار
6. وإنّ صـخـراً لـكـافـيـنـــا وسـيـّدنـــا وإنّ صـخـراً إذا نـشـتـو لـنـحــّار
7. وإنّ صـخـراً لـمـِقـْدام إذا ركـبـوا وإنّ صـخـراً إذا جـاعــوا لـعـقّـار
8. وإنّ صـخـراً لــتـأتـمّ الهـُـداة بـه كـأنّـــه عــَلَــمٌ فــي رأســه نــــار
9. جَـلْـد جـميـل المُـحَيّــا كامـلٌ وَرِع ولـلــحـروب غَـداة الـرَوْع مِسْـعـار
10. حـمـّـال ألـويـة هبـّـاط أوديـة شـهـّـاد أنـديـة لـلجـيـش جــــرّار
11. لـم تَـرّه جـارة يمشي بساحتهـا لـرِيـْبـة حيـن يـُخـْلِي بيتـه الجـار
التعليق : الخنساء في رثائها تستعرض محامد الميت والإغراق في إطراء خصاله ومن أبرزها : الشجاعة : فهي تشبهه بـ"السبنتى" النمر الكاسرالجريء في الحرب الصعبة الضروس"الهيجاء المعضلة" ويعد البيت الثامن أمدح بيت قالته العرب ، والإقدام حيث تخيلته حاملاً للراية ، أو هابطاً الأودية الموحشة أو قائداً للجيوش والزعامة فهو سيد قومه وإمامهم وهاديهم ، ويحضر المجالس والمحافل المهمة ،ونلحظ جمال البيت العاشر لما فيه من تقسيم موسيقي رائع الذي ترتاح إليه النفس وتطرب له، وقد احتوى شعرها على الكثير من التناغم والجمال ، ويتأتى هذا من الإيقاع العذب واختيار الألفاظ السهلة ، كما أنها أتت بأبيات مدورة ، والتدوير من الظواهر المرتبطة بالأوزان ، كما رأينا في البيتين السابقين في هذا المقال اللذيْن رثت فيهما معاوية " الدموع ـ الجمان ، ويتصف بالكرم والجود فهو منحار شديد الكرم في زمن الجدب والقحط ويقيهم العوز أيام الشتاء ـ حيث يقل الطعام ـ فيذبح لقومه الذبائح ، والورع والتقوى والعفة ، حيث إنه يحفظ عـِرض جاره إذا غاب عن بيته . ثم تصفه بجمال المحيا ، بهاء الطلعة " ويُعرَف عن أخويها الجمال وطول القامة" ، كامل الأوصاف فهو جريء في الحرب وجلد" صبور"حليم وهو مشعال لنار الحرب إذا اتقدت أيام الفزع والهلع ، ومن براعة الخنساء حسن التخلص بالانتقال من البكاء والتفجع والأسى إلى ذكر مناقب الفقيد ومحامده وآثاره في القوم وما يتحلى به من مكارم الأخلاق ، فقد قال القدماء :"إن أجود الرثاء ما جمع إلى التفجع على المرثيّ تعداد مناقبه ومدح آثاره"وقال المبرد : فأحسن الشعر ما خلط مدحاً بتفجع" . والخنساء تكرر المعاني في قصائدها وترددها في كل مراثيها بتعابير مختلفة : فهي تكررالحروف والأسماء كقولها : "إن صخراً لكافينا ، إن صخراً لتأتم الهداة به :حرف الام المزحلقة وحرف التوكيد إن وكلمة صخر والدهر" وتكرر الأفعال: تبكي ، ذرفت ، مشى ويمشي ، وفيض يسيل ، العبرى" لتثبت أحقيتها في البكاء على أخيها وتفرض الصورة العاطفية للرثاء : البكاء والعويل والوله وذرف الدموع فالبكاء صورة تعبيرية عن ألم نفسي وحزن في قلب الإنسان ، وهو طريقة من ألوان التعبير المادي ، وتكرار كلمة "خُناس" للتعبيرعن الهُزال والوهن والضعف والانكسار الذي أصابها بفقدها أخاها وجاءت بالالتفات : وهو تغيير الضميرمن المخاطب إلى ضمير الغائب بقولها : قذى بعينـِكِ وهي هنا تخاطب نفسها "أو ذرفَتْ" ضمير غائب تقديره"هي" : والغرض منه لفت نظر المتلقي والانتباه وتقوية المعاني ، وهي تتفنن في عرض الصور بتغيير القوالب اللفظية ، وتعداد النعوت والصفات التي تطلقها على الدمع وتلح كثيراً على "الغزارة والكثرة" وغيرها ، وهي إظهاراً لتفجعها ، وإبداء التهويل والتضخيم والتعظيم والإكبار وصدق المشاعر والانفعال ، والخنساء كثيرة الاستعمال لصيغ المبالغة التي عجّت بها قصيدتنا مثل " عوار ومدرارـ نحار ـ عقار ـ مسعار ـ مقدام ـ حمال ـ هباط ـ شهاد ... الخ" استعملت الصفة المشبهة مثل "جميل ، ورع ، سيد ، جلْد ، كامل " وهذه الصفات تفيد الثبات والاستقرار وبيان الحال والهيئة ، وقد استعملت التقسيم فقالت : له سلاحان : أنياب وأظفار، استعمال الاستعارة المكنية في قولها : "للحروب غداة الروع مسعار" فقد شبهت الحرب بالنار وحذفت المشبه به ، ومن تشبيهاتها التي نالت الإعجاب البيت :
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
إلى أن أصبح مثلاً يضرب بالشهرة والهداية حيث يقال : فلان أشهر من نار على علم "والعلم هو الجبل" وأكثرت من التحسر على خسارتها بفقد أخويها ، وهي تلتزم بأسلوب الجاهليين في الدعاء للميت واستسقاء الغيث لقبره :
سقى الله أرضاً قد حوتهما من المستهلاّت السحاب الغواديا
والخنساء لا تلجأ في رثائها إلى تحكيم العقل ، بل تجري فيه مع العاطفة الصادقة وهذا أوفى بالتفجع والتعبير عن الحزن . وأما ألفاظها فهي حسنة التهذيب ، قوية ، على حظ كبير من المتانة .قال النقاد في ميزات شاعريتها :" إنها لا تعبأ بتنسيق أفكارها ، وصقل نظمها ، وأكثر ما نراها في تعداد صفات صخر، غير منتبهة لتنظيمها ، وتكتفي بالأنة الوحيدة القوية تجرح قلب السامع ، وباللمحة من الصورة الجميلة تخلب لبّ المُطالع ، غير مكترثة لما وراء ذلك من استهلال موضوعها على مقتضيات الفن". وقصائد الخنساء قصيرة عبارة عن مقطوعات شعرية ، وأطولها قصيدتها الرائية التي تعرضنا لها هنا .
وقديماً قيل لأحد الشعراء : لمَ لا تطيل الشعر ؟ فقال : يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق ، وسئل آخر:هل كانت العرب تطيل ؟ فقال نعم ، ليـُسمع منها ، قيل : فهل كانت تـُوجـِز ؟ قال : نعم ليـُحفظ عنها ، لذا فإن إيجاز الخنساء ساهم في سماع شعرها وحفظ الكثير منه .
شهد الشعراء والأدباء والنقاد بشاعرية الخنساء سواء الجاهليون منهم أو الإسلاميون أو مستشرقين : من الجاهليين : النابغة الذبياني وكان بمنزلة الناقد قال : عندما أنشدته في سوق عكاظ " لولا أن أبا بصير "الأعشى" أنشدني لقلت : إنك أشعر الجن والإنس"وقدمها على حسان بن ثابت ، فغضب حسان وقال : أنا أشعر منكَ ومنها ، فطلب النابغة من الخنساء مجادلته ، فسألته : أي بيت هو الأفضل في قصيدتك ؟ فقال :
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قالت له : في هذا البيت ستة من مواطن الضعف قال : كيف ؟ فقالت : "الجفنات" وهي دون العشر، ولوقلت "الجفان" لكان أكثر ، وقلت" الغر" والغرة بياض في الجبهة ، ولوقلت"البيض" لكان البياض أكثر اتساعاً ، وقلت "يلمعن" و"اللمعان" انعكاس شيء من شيء ، ولوقلت:"يشرقن" لكان أفضل ، وقلت في الضحى"ولوقلت" في الدجى" لكان المعنى أوضح وأفصح ، وقلت"أسيافنا" وهي دون العشرة ، ولوقلت"سيوف"لكان أكثر، وقلت"يقطرن" ولوقلت"يسِلـْنَ" لكان أفضل ، فلم يجد حسان كلمة يرد بها ، وقال بشار بن برد : لم تقل امرأة شعراً إلا ظهر الضعف فيه ، فقيل : أوَ كذلك الخنساء ؟ فقال : تلك فاقت الرجال ، وعدّها علماء اللغة والنحو مع ليلى الأخيلية ، أشعر نساء العرب وأكثرهن فصاحة وبلاغة وقيل : إن النبي استنشدها فأعجب بشعرها واستزادها منه ، وقال كرنكوف"ألاحظ على مراثيها القِصَر، وصدق التفجع والحزن، ونكاد نقطع بأن قصائدها ألهمت عدداً كبيراً من شعراء المراثي المتأخرين ومنهم : ابنتها عمرة ، وقال المستشرق كوستاف فون : وإذا كانت المراثي قد نشأت من نياحات النساء ، إلا أن هذا الفن إنما بلغ أوْجَه في مراثي الخنساء الشاعرة التي عاشت في النصف الأول من القرن السابع "وقال : أما الخنساء فقد جعلت الجبال تتدحرج بداعي وفاة أخيها ، والنجوم تهوي ، والأرض تهتز ، والشمس تظلم" وصنفها ابن سلام الجمحي من فحول شعراء الجاهلية في كتابه"طبقات فحول الشعراء" ويرى علماء الشعر والبلاغة :"أن براعة الاستهلال لا تتحقق في الشعر إلا إذا كان مطلع القصيدة دالاً على ما بـُنيتْ عليه ، مشيرة إلى غرض الشاعر من غير تصريح فيستدل السامع بذلك على القصد من عتاب ورثاء وهكذا ، وأحسن الابتداءات عند القزويني ما ناسب المقصود ويسمى براعة الاستهلال" ومن سمات مطالع قصائد الخنساء : الاستهلال بمخاطبة الدموع والعين وترغيبها في الجود بالدموع ، وهذا خير مبين على الغرض العام لقصائد الخنساء في رثائها . أدركت الإسلام فأسلمت وحسن إسلامها وتبدلت بواعث بكائها فصارت تقول: كنت أبكي لصخر من القتل ، وأنا أبكي له اليوم من النار ، ولما نادى منادي الجهاد وشبت أوار حرب القادسية ، لبت النداء وأجابت دون خوف أو تردد ، أوصت أولادها الأربعة وحثتهم على الشجاعة والإقدام والثبات في ميدان المعركة ، مستبشرين بالنصر قاصدين الجهاد في سبيل الله ، راغبين بالفوز بالجنة ورضا الله ، فلما علمت باستشهادهم قالت :" الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته" سبحان مغيّر الأحوال لا نكاد نصدق كيف تغيرت أحوال الخنساء بعد الإسلام ، إنه الإيمان الذي يجلب الصبر والسلوان ، فما أعظم ثمرات الصبر والإيمان ! سجلت الخنساء حكمة الأيام وسنتها في الحياة والموت ، وقدرة الله سبحانه وتعالى وهي تقول :
كل امرىء بأثافي الدهر مرجوم وكل بيت طويل السمك مهدوم
لا سوقـة منهـم يبقـى ولا مـلـِك مـمـن تملكـه الأحـرار والـروم
إن الحـوادث لا يبقـى لنـائـبـهـا إلا الإلـه ورأس الأصـل معلوم
عمرت طويلاً ، ماتت الخنساء في أول عهد عثمان بن عفان رحمهما الله .
قراءة:
You must be logged in to post a comment.