كثير من الناس شغوفون بمشاهدة الأفلام السينمائية، لاسيما أفلام هوليوود الأمريكية، لكن معظمهم لا يلتفت إلى البعد الرمزي لهذه الأفلام، والمغزى الذي يكمن وراءها، وغالبا يكون مغزى عميقا يخدمه الفيلم بكل تفاصيله وحيثياته. وما يجعل الناس ينشدون إلى هذه الأفلام هو ظاهرها الإبهاري، وصناعتها المتقنة، وبراعة الممثلين، والحبكة القصصية فيها، وغير ذلك من عناصر فنية تزيد من قيمة الفيلم وتجذب الجماهير نحوه. لكن النقاد السينمائيين يعولون أكثر على البعد الرمزي للفيلم، وما يكمن وراء قصته من أفكار يريد كاتب الفيلم ومخرجه أن يوصلوها للناس.
في هذه المقالة الموجزة سأتناول البعد الرمزي لفيلم مشهور؛ هو فيلم (المفترس Predator) الذي ظهر في ثمانينات القرن العشرين. وهو من بطولة الممثل العالمي المعروف أرنولد شواريزنيجر، وهو يحكي قصة مجموعة عسكرية أمريكية من المارينز تأتي إلى جزيرة بعيدة في محاولة لإنقاذ جنود أمريكيين اختفوا على هذه الجزيرة في ظروف غامضة، وتبدأ المجموعة بالبحث في أدغال الجزيرة وسرعان ما يبدأ مخلوق غير مرئي بمهاجمتهم وقتلهم واحدا تلو الآخر بطريقة وحشية دموية، ويظهر مع تتابع الأحداث أن هذا الوحش قادر على التجسد، وهو ذو شكل بدائي بشع جدا، لكنه مع ذلك مسلح بتكنولوجيا متطورة، ولديه قدرات هائلة، وقادر على التحرك بسرعة، ومراقبة الخصم بحرفية كبيرة. وبذلك استطاع أن يقتل كل أفراد المجموعة إلا قائدهم القوي والخبير والذكي جدا ، وهو بطل الفيلم الذي لعب دوره شواريزنيجر، وتبدأ عملية مطاردة متبادلة بين الاثنين، وكلا الطرفين حريص على قتل الآخر، لكن الوحش كان متفوقا على القائد من جوانب عدة، بدنية وتكنولوجية وغيرها. وينتهي الفيلم حين يسقط القائد في طين البحيرة محاولا الهروب من هذا المخلوق المفترس، ويكتشف بعد أن يرفع جسمه أن الوحش أمامه تماما لكنه لا يراه، فيدرك بذكائه أن الطين الذي يغطي كامل جسمه هو الذي حال دون رؤية الوحش له، فيستغل نقطة الضعف هذه، ويبدأ بنصب الكمائن للوحش، معتمدا على خبرته العسكرية، وينجح في قتل الوحش والخلاص منه، ثم سرعان ما تأتي إلى القائد مروحية إنقاذ تأخذه من الجزيرة تاركا وراءه أشلاء زملائه الذين راحوا ضحايا لذلك المفترس الشرس.
وترون إن ظاهر القصة مشوق جدا، وفيه مجال للحركة والأحداث التي تحبس الأنفاس، بالإضافة إلى عنصر الرعب الذي تتضمنه القصة، وقد صور الفيلم بطريقة حرفية، واختير له مكان مناسب جدا كمسرح للأحداث، وموسيقى ومؤثرات صوتية احترافية، وأدى الممثلون أدوارهم ببراعة كبيرة، مما جعل الفيلم في ظاهره جذابا مشوقا ذا قيمة فنية كبيرة، وناجحا جدا من الناحية التجارية، محققا لإيرادات عالية في شباك التذاكر على مدى سنوات طوبلة.
لكن ما يجعل الفيلم أكثر قيمة هو البعد الرمزي العميق فيه، والفكرة الخفية الرائعة التي أراد كاتب الفيلم أن يوصلها إلى الجمهور، وهي فكرة الحرب المدمرة، فالوحش المفترس يرمز إلى الحرب الفتاكة، وهي فكرة بدائية بدأت مع وجود الإنسان على الأرض، فاختار الكاتب للوحش شكله البدائي، وعادة تكون أسبابها معقدة وغير مفهومة وغير واضحة، لذلك كان الوحش غير مرئي، يفتك بالبشر بشراسة وهم لا يرونه ولا يستطيعون تحديد مكانه. والحرب تأكل الأخضر واليابس، تدمر الاقتصاد وتستهلك خصب الحياة، لذلك أظهر الفيلم أن الوحش ذو دم أخضر، وذلك حين استطاع أحد أفراد المجموعة أن يصيبه بعيار ناري أثناء إطلاق عشوائي في اتجاهه. والحرب، كما هو معلوم، تفتك بالبشر مهما كانت أعراقهم وأجناسهم، لذلك تعمد الكاتب أن يجعل أفراد المجموعة متنوعي الأعراق فمنهم الأبيض الغربي، ومنهم الزنجي، والآسيوي وغير ذلك، فقتلهم الوحش جميعا بدون تمييز، إلا قائد المجموعة الأبيض الأمريكي، وهي ربما إشارة إلى تفوق العرق الغربي الأبيض وقدرته على المواجهة والانتصار، وهو توجه هوليودي معروف ولا يكاد يخلو منه فيلم من إنتاجها.
وكان أفراد المجموعة جميعا يظهرون على أجهزة الوحش الاستشعارية بلون أحمر، أي بلون الدماء، والرمز الذي يكمن وراء ذلك هو أن الحرب تتغذى على دماء البشر، ولا يهمها لون بشرتهم واختلاف أعراقهم.
أما الرمز الأروع في الفيلم، فهو الذي مثله الطين الذي انغمس فيه بطل الفيلم في محاولة هروبه، الأمر الذي جعل الوحش لا يراه مع أنه وقف أمامه وجها لوجه، وهذا الطين يرمز إلى فطرة الإنسان الأصلية النقية من ملوثات الأطماع والأحقاد والمصالح، فكاتب قصة الفيلم أراد أن يقول إن البشرية إذا عادت إلى فطرتها البريئة غير الملوثة بما ذكرنا فحينئذ ستنتهي الحروب ولن تعود قادرة على النيل من السلام الإنساني.
د. مرتضى شرارة
You must be logged in to post a comment.