سيرة عن الشاعر
ولد الشاعر اللبناني جبران خليل جبران في إحدى أرياف بلدة بشري التي تتبع متصرفية جبل لبنان، عمل والده الصيدلاني في بيع الأدوية، غير أنّه كان لاعب قمار وشارب خمر إلى درجة الثمول، مما أدّى ذلك إلى شرود عائلته وفقرها، فهاجرت زوجته وأطفالها إلى الولايات المتّحدة الأمريكية، تحديدًا في جنوب بوسطن، وتلّقى تعليمه في مدرسة كوينزي، حيث أدخلوه إلى صفوف الذين لا يتكلمون الإنجليزية لتقويتها، التحق بمدرسة الفنون، وهناك تطوّرت موهبة الرسم لديه، وكان معلمه فريد هولاند داي يشرف على إبداعاته الفنية، بعدما تجلّت عليه أثر الثقافة الغربية، أمرته والدته السفر إلى لبنان ليتمكن من اللغة العربية وكي يتعرف إلى تراثه العريق، فدرس في مدرسة الحكمة.
الرومنطيقيا
يجدر تعريف الرومانطيقيا أو الرومانتيكا قبل بدء الحديث عن '''الرومانطيقية عند جبران خليل جبران'''، لذا فإنّ مصطلح الرومانطيقية مأخوذ من اللغة اللاتينية، ومشتق من كلمة roman أيّ: سرد قصص خيالية أو وصف حدث بطريقة تجعله يبدو أفضل مما كان عليه، ظهرت الرومنتيكيا على سطح الأدب الكلاسيكي العريق في ألمانيا لأول مرة في القرن الثاني عشر، وكانت مبهمةً لم تكتمل معالمها بعد، إلّا وجود بعض دلالات تشير إليها كالقصص الخيالية، والتصوير المثير للانفعال، والفروسية والمغامرة والحبّ، والمنحى الشعبيّ أو الخروج عن القواعد والمعايير المتعارف عليها، والأدب المكتوب بلغاتٍ محليّة غير اللغات القديمة، مثل الفرنسية، والإيطالية، والبرتغالية، والإسبانية، ويمكن القول بأنّ الرومانطيقية كانت تطلق على كل ما يقابل كلمة الكلاسيكية، وفي أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر كانت الرومانتيكا تطلق على أي خطوة جديدة تجابهُ القواعد الأدبية المترسخة، والثورة على الأفكارِ الكلاسيكيةِ الفنية، من خلال الخيالات الفردية الناقدة، مع العاطفة الجامحة التي لا تهاب أي شيء، ترفض التقليد وتعتبره عدمًا، يقول الشاعر الألماني غوته: "الكلاسيكية صحّة، والرومانسية مرض"، وإضافة على ذلك، يمكن الاستعانة إلى رأي الفيلسوف الفرنسي روسو حيث قال: "إنّ الإنسان طيّبٌ بفطرته، والمجتمع هو من يفسده"، فالرومانسية أو"الرومانطيقية" هي مذهبٍ أدبيٍّ لها خصائص محددة، تمّ تحديدها من قبل الاتجاه النقدي للحركة الأدبية التي تفشّت في أرجاء أوروبا أعقاب المذهب الكلاسيكي، وما قامت بإنتاجه من الأعمال الفنية على المستوى الإبداعية.
ميزات الرومانطيقيا
لا بدّ أنْ يكون لكل مصطلح أدبي ميزة أو عدة ميّزات تجعله مختلفًا عن البقية، فهناك بعض ميزات أو خصائص تتميز بها الرومانطيقية عن غيرها من المذاهب الأدبية، فأولها؛ الثوران على سلطة العقل، واللجوء إلى القلب بما يضج من الأحاسيس والمشاعر الجياشة، التي تندفع نحو الجمال والحب الأفلاطوني، أي: الحساسية الجديدة واكتشاف الذات، ويليه؛ التمرد على القواعد والأنظمة المتوارثة من الكلاسيكية، بأنْ يصدح الشاعر بالحرية والاستقلالية، وثالثًا؛ الرجوع إلى عالم الغاب، أو مناجاة الطبيعة التي كانت ملاذ الرومانسيين، إذ كانوا يستنطقونها ويلتمسون روحانيتها، ويلي ذلك؛ الارتحال إلى عوالم جديدة والتولع بالاغتراب، ورابعًا؛ الميول نحو المرأة وإعطائها منزلتها الخاصة في المجتمع، كما تتوسع الرومانسية في استخدام الألفاظ استخدامًا يقوم على تراسل الحواس، حيث تكون سهلةً للتعبير عن الانفعالات النفسية والوجدانية العالية، كما تغلب الكآبة والحزن والصراع النفسيّ والدرامي نصّ الرومانتيكية.
الرومانطيقية عند جبران خليل جبران
فيما سبق كان ملخصًا وجيزًا عن ماهية الرومانطيقية، والآن سيذكر المقال لبّ الموضوع في الرومانطيقية عند جبران خليل جبران، فبعد عودة جبران من مسقط رأسه إلى بوسطن تلقّى خبر وفاة أخته الصغرى نتيجة مرض السلّ، ثمّ توفيّ أخوه عام 1903 بسبب المرض نفسه، وبعد أيام قليلة توفيت أمه بمرض السرطان، مما أبقى في خلد الشاعر ألمًا مفجعًا، وقتها ساندته أخته ماريانا على إكمال مسيرته الأدبية والفنية، حيث كانت أول أعماله '''نفثة في فن الموسيقا''' حاكها بانفعالية عالية ونضوج غير مكتمل عام 1905، وآنذاك تلقّى دروسه في اللغة الإنجليزية من صديقته ماري هاكسيل، ثمّ ألّف العديد من الكتب وقام بنشرها '''كعرائس المروج، والأرواح المتمردة، ودمعة وابتسامة،''' يُلاحظ من عناوينها ونصوصها أنّها تحمل في طيّاتها خصائص الرومانطيقية، وهي كذلك، فهي تعجّ بتلاطم العواطف والمشاعر جيئةً وإيابًا، بما في ذلك التمرد والانقلاب على العادات البالية بعينه، وسيادة الخيال الناقد في أجواء قصصه ممزوجًا بنكهة الحزن والصراع النفسي، فلا غرو أن يكون رائد الحركة الرومانطيقية في الأدب العربي، تشكّلت رؤيته الثاقبة من خلال الاطلاع على التاريخ والواقع المعاصر، ولم يكن آراؤه عن المظاهر الاجتماعية تقلّ إيجابية عما يراه الكلاسيكيون المحدثون، بل كان الاختلاف الكبير بينه وبينهم في فن الصياغة وأسلوب الخطاب، كما أنّه قد توصّل إلى مفهوم الحبّ الأسمى عن طريق الاندماج الصوفي مع الطبيعة، قبل سفره إلى باريس، فلقد جاءه دعمٌ كبير من صديقته هاكسيل من أجل تنمية قدراته في الرسم الزيتي بواسطة تقنية عالية، فأنجز لوحته التي شاركت في تزيين معارض فرنسا.
ترحّل جبران إلى نيويورك عام 1911م، واستهلّ في تأليف '''الأجنحة المتكسرة''' يحكي فيها عن قصّة عشقٍ نالت الشهرة التي جعلت نجم مؤلفها يسطع في فلك القرّاء والأدباء، وفي العام نفسه قام جبران بتأسيس '''الرابطة القلمية''' وهي عبارة عن مركزٍ لاجتماع الأدباء لمجاراة الشعر فيما بينهم، وقد سمّوا أنفسهم بشعراء المهجر، وظلّ جبران ينتج أعماله الأدبية باللغتين العربية والإنجليزية، فمن أشهر أعماله باللغة العربية؛ قصيدة '''المواكب''' التي تتألف من ست مقطوعات؛ خمسة منها تعبر عن الواقع، أما المقطوعة السادسة فيصف الشاعر فيها الغاب، الطبيعة التي هي مسكن الرومانسيين، كتب أبياته الشعرية على شكل حوار فلسفي بنغمتين؛ يتهكم أحدهما من القيم المصطنعة للحضارة؛ ويغني الآخر أنشودةً للطبيعة ووحدة الوجود بالتفاؤل، ومن أشهر كتبه باللغة الإنجليزية؛ كتابه "النبي"، الذي يتكون من ٢٦ قصيدة شعرية، وتمّ ترجمته إلى أكثر من خمسين لغة، إذ يحويها وجهات نظر جبرانية عن أمور الحياة، خصوصًا أنّ الحبّ هو كيان الحياة وجوهرها، كما حاول الشاعر فيها معالجة العلاقات الإنسانية التي تترابط فيما بينها لتعيش في سلام وودّ.
You must be logged in to post a comment.