لطالما وجدت قصيدة الأطلال نفسها محلقة في سماء لحن الموسيقيين أو المستمعين. إنها تحفةٌ فريدة من الجمل الموسيقية الموزونة والمتناسقة بشكل لا تنفك إحدى نوتاتها عن الأخرى.
إن الواقع الموسيقي في زمن العملاق السنباطي كان قائما على تحقق ما بعد ابداع الجملة الموسيقية، كيف ذلك؟
رياض السنباطي أكبر من كل هذه السطور،وهذا الجانب من التحليل لا يعد سوى رذاذ قطرات من بحر السمو الموسيقي لدى موسيقارنا.
كان السنباطي ملماً ومهتما شديدا في القصيدة العمودية،ويعتبرها فحوى الشعر العربي الأصيل،استغرق السنباطي في قراءة الأطلال لحنا مدة ستة شهور، يقلِّب لحنها حسب ما تقلِّب الكلماتُ نوازعه العطشى للتلحين.
رسم لنا في تلحين الأطلال منحنىً يبدأ بالاسترسال الموسيقي . مقدمة ترسم للسامع مشهد طلل الحبيبة،تتنازعه صعودا وهبوطا وسرعةً وبطأً نغماتٌ موسيقيةٌ يقودها مقام موسيقيٌ عربيٌ خالص هو راحة الأرواح وهو المقام الكبير المشتق من السيكا.
يستخدم السنباطي الأزمنة الطويلة في موسيقاه هنا، وذلك لأن المدى طويل في القصيدة العمودية وموضوعها هنا الطلل .
قسم السنباطي قصيدة الأطلال لخمسة أجواء :
الأول : وهو المقدمة الموسيقية والتي امتازت بنغمات مستديرة طويلة الزمن،لاحق خلالها مكان الطل وأحيا ذكرياته متنقلا في مقام راحة الأرواح ومرتكزا كثيراً عل نغمة سي الجواب ليعلو بالإنفعال الموسيقي نحو القمة.ويتواصل هدير موسيقاه حتى يهدأ بحرها استعدادا للغناء.
الثاني : يبدأ الغناء وقد جعل الجمل هنا متقطعه بشكل نداء أو مناداة في " يا فؤادي لا تسل أين الهوى..كان صرحا من خيال فهوى".
وتهوي النغمات تباعا في "فهوى".بعدها يتبادل السنباطي الركوز على الحجاز والسيكاه في حزن "لست أنساك وقد أغريتني.." حتى السؤال الأخير: " أين في عينيك ذياك البريق؟"
الثالث : يسيطر الحزن على الأبيات في "يا حبيبا زرت يوماً أيكه ..". يشعل السنباطي مقام الصبا ويجعل منه دفقا من دموع القصيدة، رحلة تقودها كلماتٌ في غاية الجمال والسحر ولحنٌ يشعل ذلك الإبداع. إلى أن ينتفض الشاعر لنفسه ولحزنه في " أعطني حريتي أطلق يديا.." وخنا يتحول مسار الموسيقى نحو التحدي والثورة للذات على هذا الأسر والحب والفقد. يرتكز على نغمة لا محققا صعودا ونداءً غير الذي بدأ به .
الرابع: هذا المقطع " هل رأى الحب سكارى.." هو قمة الصعود الموسيقي في لحن القصيدة، إنه سؤال رأى فيه السنباطي ذروة النداء العاشق المرابط على الطلل حيث يستذكر فيه المشي مع المحبوبة في الطريق الذي تسبقهما الفرحة فيه.
لعل المستمع هنا وأغلبهم يروقهم هذا المقطع معتبرين بأنه إيقاعي أو راقص أو يفرغ شحنات ما بعد الهدوء، ولكن الموسيقي الحقيقي المتتبع لألحان السنباطي يجد فيه غير ذلك. إنه سؤال بنزعة موسيقية شديدة ترتكز من جديد على نغمة سي في مقام راحة الأرواح وبشدة تدخل في أوكتاف آخر يحقق ذروة موسيقى السؤال.
الخامس: يبهط الجرس الموسيقي في "وانتبهنا بعدما زال الرحيق .." يعود بنا العملاق السنباطي من القمة الروحية إلى جوهر روح القصيدة وهو البحث عن الطلل في الحاضر، تستيقظ موسيقاه من جديد على لحن الحجاز الذي يسبغ فقد الحبيب بين جنبات الأبيات الشعريه ، وكما بدأ بالأزمنة الطويلة يختم بها في "فإن الله شاء "
ان التحليل السابق هو ومضة بسيطة في لحن الموسيقار العظيم رياض السنباطي، الذي حقق معنى القصيدة في موسيقى اللحن والتي لئن حاولنا تحليلها لما اكتفت به الصفحات والكتب.
You must be logged in to post a comment.