القراءة بين الكمالية والضرورة


من أكثر الأمور التي تراها راسخة عند النظر في سير الأشخاص العظماء الذين صنعوا ثورة في مجتمعاتهم هي أنهم جميعا اشتركوا في صفة واحدة على الأقل، وجميعهم كانت القراءة جزء لا يتجزأ من يومهم على اختلاف مجالاتهم، فما بين السياسيين المحنكين، علماء الفيزياء والطب، الفلاسفة والمفكرين بالطبع، صناع التكنولوجيا وثورة العالم الصناعية والتقنية، الكُتاب بالطبع .. وغيرهم

وعلى الرغم من إيمان الجميع بأهمية القراءة إلا أن ذلك الروتين الصحي يندثر ويموت موتا بطيئا ولم يحافظ على هذه العادة إلا القليل من الأشخاص ناهيك عن محتواهم المقروء الذي يُصغّر بدوره نسبة القراء الحقيقيين منهم.

 

ويعد ذلك أمرًا غريبًا نظرًا لتعدد المقالات والمحاضرات العامة التي ناقشت موضوع القراءة وتناوشت بين تعريفها على أنها فرض سماوي بدأ به القرآن الكريم وكانت أول كلمات الذكر، وبين ما آلت إليه بكونها موضة المحتكرين الثقافة ومحستو القهوة، ولكن ‏بعيدًا عن هذا وذاك فنحن اليوم بصدد إعادة طرح الموضوع من منظور جديد، وإعطاء أسباب منطقية فعلا للقراءة.

 

فهل أنا مضطر فعلا أن أقرأ؟

 

المشكلة الأولى تكمن في تعريف القراءة بين جيل اللذة الفورية، الذي يمتعه مشاهدة مقطع فيديو صغير أكثر من قراءة الكتب، ومن الصعوبة بمكان أن تؤسس في هذا الجيل بأسره ثقافة القراءة لذلك لا بد من تصدير صورة القراءة الحقيقة على أنها استثمار طويل الأمد يزرع الآن ويحصد لاحقا، وفي نفس الوقت لا بد من ضحد فكرة أن القراءة ممتعة على الأقل في المراحل الأولى من صناعة الروتين والمحتوى الدسم الذي يثري العقول.

 

إذا زرع هذا المبدأ كالقاعدة الأساسية التي ينطلق منها القراء الراغبون في استثمار أنفسهم نبدأ بغرس الحوافز، لماذا أنا مجبر على القراءة، ووهل هي ضرورية أم كمالية، ولماذا نقرأ؟

  • محدودية المصادر، فكما أن وقت الإنسان محدود وعلاقاته البشرية بمن يلتقي بهم محدودة فإن مصادر المعرفة لديه تصبح محدودة في مرحلة ما ولن يستطيع توسيع رقعة هذه المصادر إلا عن طريق القراءة بوصفها أعظم الطرق لأخذ خلاصة الأشخاص، فالكاتب يصب كل ما في جعبته في كتبه فتأخذها على طبق من فضة.

  • الكتب مقياس عظيم للنضج، خاصة عند قرائتها للمرة الثانية والثالثة .. فالكتب لا تغير كلامها ولكن فهمك يتغير بمرور الزمن لذلك فإن الكتب تعطيك فرصة لتقيم نفسك عند الرجوع إليها.

  • الكتب مشاحة شك صحية وآمنة إذ أنها تعطيك الفرصة لجمع الفكرة بنقضيها، ومنطلق جيد للشك القائد للمعرفة .. في الكتب الأمر مختلف عن الأفلام والميديا، المحتوى المرئي يتلاعب بالصور، الصوت، يصنع التعاطف، ترسل الرسائل الخفية .. في الكتب هذا الأمر أقل وأصعب لذلك أنت تناقش أفكار أكثر من كونها أحداث.

  • الكتب تربي النفس على الصبر، واتفقنا آنفا أنهم خدعوك فقالوا أن القراءة ممتعة ويطير الكتاب بك بعيدًا إلى عالم وردي، فعلى الأقل في المراحل الاولى هي تحدي ذهني للتركيز والفهم والقراءة ثم إعادة القراءة ثم للضياع بين دفتي الكتاب ثم تقودك للاقتداء بالكاتب فتجد من يعارضه ويكتب في الاتجاه المضاد فتجد نفسك منساقًا لتقرأ للضد وتبدأ تتأثر به وبين هذا وذات يبدأ يتشكل فكرك وينضج عقلك وتتزن سريرتك.

واكاد أجزم أن أعظم ميزة يمكن أن تمنحها إياك القراءة هي أنها تربيك على الصبر، إذ أن مستوى التسرع والعجلة أصبح مخيفا، فتجد من لا يريد القراءة ولا متابعة الوثائقيات ولا يشاهد المواد المصورة إن أصبحت أطول من دقائق، ولكنه يريد التطور .. وكأنه يود أن تصبح المعرفة كبسولات تؤخذ من الفم أو حقنا في العضل، ومثل هؤلاء لن تثري الكتب حصيلتهم المعرفية بل ستربيهم من جديد

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author