لن أدعك تتملكني يومًا

   اضطرابٌ فاضطرابٌ، صداعٌ حادٌ، فقطِ البكاءُ حتّى لو تفانتِ الأسبابُ، أصبحْتُ عصا لا تُرى لشدةِ رفاعتها، لا أستطيعُ التركيزَ حتّى لو ضغطْتُ على نفسي فأنا لا أقدرُ، أصبحتُ كتلةً مِن الصّمتِ، منعزلةً بنفسي عنِ العالم، فقطِ الجلوسُ على السّريرِ والبدءُ بالنّحيبِ وتأمُّلُ السّقفَ صارَ هوايتي.

   التجمعاتُ العائليةُ التي كنتُ أتوقُ لها أصبحتُ أتهربُ منها، تحولتُ مِن فتاةٍ تشاركُ الحياةَ بصخبٍ إلى عجوزٍ تهربُ مِن كلِّ ما يربطُ الأمواتَ بالحياةِ، تغيرتُ وتراجعتُ، أصبحَتْ إنجازاتي وأحلامي تهربُ مني، أشعرُ بالفراغِ وانعدامِ الأملِ، أشعرُ أنني لا أرتفعُ سوى للأسفلِ.

   لا تبدو الأمورُ مِن هنا كما تبدو مِن هناك، إنْ كنتَ ترى أنني مجردُ مصابةٍ باكتئابٍ لا تعرفُ عنهُ غيرَ أنَّ صاحبَهُ مرَّ بظروفٍ فأحزنتهُ، وأنَهُ ضعيفُ الإيمانِ بالله، فأنتَ مُخطئٌ بلا شك. فأنا يا صديقي جثةٌ تعيشُ الفصولَ الأربعةَ في خمسِ دقائقَ، أنا كلُّ المحزونين في أرضِ اللهِ الواسعة، أنا مَن اختارتني الحياةُ لتلقيَ لومَها عليّ، أتساءلُ كيفَ للإحباطِ أنْ ينالَ منّي ويحطمَني إلى هذا الحد.

   تأتيني صديقةٌ تشكوني وتعاتبُني على إهمالي لها وعدمِ الرَّدِ عليها، المخفي في أعماقِنا لا يَعلمُهُ أحدٌ، حينَ تعتذرُ عن لقاءٍ ما سيُطالبونَكَ بعذرٍ مقنعٍ لهم، حينها ستضطرُ إما للكذبِ أو الصّدقِ وكلاهما سيِّء، هم لن يفهموكَ حين تختلقُ عذرًا ثمَّ تتساءلُ هذا ليسَ مِن شيَمي، وحين تصارحُهُم بحقيقتِكَ يستخفّونَ بكَ وهم بغيرِ درايةٍ عنِ المعركةِ التي تخوضُها بمفردِكَ، فقدانُ الحياةِ عندما تبدأُ حيويّتُكَ بالتسربِ بعيدًا عنك. معظمُ مشاكلُنا أنّنا مُجبرونَ على التعاملِ مع مجموعةٍ مِنَ المنافقينَ والموهومينَ والكذابينَ مع عدمِ وجودِ طاقةٍ لاحتمالِ كلِّ هذه التفاهات.

   أنتَ يا صديقي لا تخفْ عندما تواجهُ ضغوطاتِكَ النّفسيةِ، اتخذْ صديقًا لك ملجأً، لا تواجهْهُ بمفردِكَ وإنْ كنتَ ترى أنكَ أقوى مِن ذلك، فأنتَ بحاجتٍ ماسّةٍ إلى مَن يحتضنُ يدَكَ، إنْ لم تخترْ ما الذي تريدُهُ مِن الحياةِ فإنَ شخصَا آخرَ سيختارُ لكَ ذلك.

   وبعدَ ذلكَ سوفَ تسألُ نفسَكَ: أينَ ضاعَتْ أحلامي؟، وستقومُ بهزِّ رأسِكَ وأنتَ تُهَمهِمُ: ما أسرعَ مرورَ الوقتِ!، وتُعيدُ سؤالَ نفسِكَ مرَّةً أُخرى: ما الذي أنجزتُهُ طوالَ فترةِ حياتي؟، واسأل نفسَكَ أكثر: هل هنالك مَن يحتاجُني في حياتِهِ؟، أحدٌ يريدُني أنْ أبقى معهُ وأرسمَ الإبتسامةَ على وجهِهِ؟، هل سيؤَثِرُ غيابي عنهُ؟، ماذا عن عائلتي؟، فأنا قطعةٌ منهم في النّهاية، بالتأكيدِ لا أحدَ سيرغبُ برحيلي!، إذًا لماذا أُهدرُ وقتيَ بأفكاري السّلبيّةِ والمشوشةِ؟، لمَ أنا هنا؟، بالتأكيدِ هناكَ غايةٌ لوجودي!، فأنا لستُ مجردَ تمثالٍ لتتأملَني وتشفقَ على حالةِ التمثالِ المزريةِ الذي أُهملَ منذُ دهرٍ طويلٍ، أنا لديّ ما يكفيني لأبقى، هناكَ دومًا أملٌ نهايةَ الخيطِ الكئيب.

   يمكنكَ التحركَ فأنتَ ما زلتَ بصحتكَ، ستقفُ على قدميكَ وتصرخَ مِن أعماقِ قلبكَ: أنا لها، يكفيني ما أمرُّ به وأنْ أُحبِّطَ مِن نفسي، حتى لو كنتُ على حفَّةِ انهياري فلا بأس يمكنني التماسكَ فأنا أقوى مما تظن، التفاصيلُ التي تُغرقُني إيماءاتُها لمعرفةِ معانيها المقصودةِ، لنْ أُفكرَ بها مطلقًا، وأُعبرُ عن داخلي بكلِّ ما أوتي نفسي مِن قوةٍ.

   لا تكتمْ فالمشاعرُ المكتومةُ لا تموتُ أبدًا بل تُدفنُ بداخلكَ وستظهرُ لاحقًا بطرقٍ بشعةٍ. كُن على يقينٍ أنِّ الجمالِ موجودٌ يولدُ بأشكالٍ عديدةٍ فقط غيّرْ زاويَكَ وستراهُ في كلِ مكان. اسخرْ منْ إحباطِكَ وقُل له: لن أدعكَ تتملكني يومًا.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
أبريل ١٨, ٢٠٢٣, ٣:٥١ م - Aya Mohammed
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٤ ص - عبد الفتاح الطيب
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:٢٣ م - Abdallah
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:١٤ م - Rasha
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:١٠ م - Areej Alfateh Salah Aldien
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:٠٢ م - ملك حمدي
About Author