أغراض الشعر الجاهلي ـ 1 ـ

                

 أغراض الشعر الجاهلي  ( 1 )

الشعر في العصر الجاهلي : يمتد العصر الجاهلي نحو مئتي سنة قبل الإسلام  ، ويحتل  الشعر المكانة الأولى في الأدب الجاهلي ، ومن هذا العصر وصلت إلينا أقدم الآثار الأدبية العربية وأكثرها الشعر ، الذي جاءنا في قصائد مكتملة فنياً ، ومن المؤكد أنه بدأ بسيطاً ثم تطور إلى الأشكال التي وصلتنا ، فيقال : إن الشعر بدأ سجعاً ، ثم تطور إلى الرجز، لأنه على شكل حداء ، ثم تعددت الأوزان والقوافي لحاجة الناس إلى التعبير به عن وجدانهم حتى وصل إلى ذروته الفنية على يد أصحاب المعلقات ، وقد حفظ لنا هذا الشعر أيام العرب ، ووقائعهم وأخبارهم ، وعدت أنموذجاً ظل الشعراء المتأخرون يحتذونه لفترة طويلة .

من أغراض الشعر الجاهلي : تنوعت أغراض الشعر الجاهلي من أهمها : الغزل والفخر بمكارم الأخلاق ، والهجاء ، والمدح ، والوصف ، والحكمة ، والاعتذار .

أولاً : الوصف : هو من الأغراض التي برع فيها شعراء الجاهلية ، وهو يرد في معظم أشعارهم ، فالشاعر يركب ناقته في أسفاره فيصفها وصفاً دقيقاً ، وهو يمر بالصحراء الواسعة فيصورها تصويراً بارعاً ، فيصف حرارتها بالقيظ وما فيها من السراب الخادع ويصف برودتها في الشتاء ويركب فرسه للنزهة أو الصيد فيصفه ويصف إعداده للصيد ، وقد وصف الشعراء أيضاً المعارك التي تحدث بينهم وبين خصومهم ، ونجد ذلك عند الأعشى ( ميمون بن قيس ) حيث وصف معركة ذي قار مع الفرس والتي انتصر فيها العرب  ويصف فرسان العرب وشجاعتهم وأسلحتهم فيقول :

وجند كسرى غداة الحنو صبـّحهم

                            منا غضاريف ترجو الموت وانصرفوا

لقوا  ململمة  شهباء  يَقْدُمها

                      للمـوت  ، لا  عاجـز  فيهـا   ولا  خـرف

 

فرع نمته فروع غير ناقصة

                   مــوفـــق   حـــازم   فـي   أمـــره    أنـــــف

فيها فوارس محمود لقاؤهم

                       مـثـــل  الأسنـــة لا مـيـــل  ولا  كــُشـُـف

                                                                                         بيض الوجوه غداة الروع تحسبهم

                              جنـّانَ عيـنٍ عليها الـبـَيض والزَّعف

التعليق : يقول الشاعر : إن الجيش الفارسي فوجيء في الصباح عند حنو ( مرتفع من الأرض ) ذي قار بسادة أشراف  من العرب دفعتهم أنفتهم إلى أن يبذلوا حياتهم في سبيل كرامتهم فهم يخوضون المعركة راغبين في الموت حريصين عليه ،  ووجدهم الفرس كتائب مجتمعة مؤتلفة يتقدمهم قائد شجاع عظيم حازم موفق في تدبير أموره أبيّ النفس ، من أسرة عظيمة تحوطه وترفع من شأنه فروع أخرى نشأت في أسرة كريمة ، وهم في السلم كرام طيبون  فيهم وداعة وسماحة وقد عبر عن ذلك بكناية عربية شائعة هي قوله " بيض الوجوه "وفي الحرب وصفهم بالجن  في سرعتها وبطشها وزاد المعنى وضوحاً بأن  جعل الجن استعدت للحرب فتقلدت سيوفها وتسربلت بدروعها .

في الأبيات كناية عن استبسال العرب في القتال حين يقول : " ترجو الموت " فجعل الفرسان العرب يرجون الموت ويرغبون فيه وهي دلالة على شجاعتهم وإقدامهم ، وكلمة " صبحهم " تشير إلى أن العرب باغتتوهم في الصباح دون أن يتأهبوا لها ، وقد شبههم "بالأسنة "في قوتها ومضائها ، حين يصف انطلاقهم نحو أهدافهم دون تردد بشجاعة وإقدام . استخدم الشاعر ألفاظاً تناسب المعاني فيذكر : "الغضاريف " وهم السادة الشجعان ، "الململة " جيوش كثيرة مجتمعة "الشهباء " وهي الكتيبة العظيمة كثيرة السلاح "الروع ": الفزع وقت الحرب والشدة ، والقائد موفق حازم في أمره أنف ، وهي ألفاظ قريبة ملائمة للمعاني التي أرادها الشاعر، وليس في أفكاره أو معانيه تعقيد أو تعمق ، بل هي بسيطة سهلة عبرعنها بأسلوب قوي ، ونرى أن العرب كانوا يعتقدون في الجن وتأثيرها .

ثانياً : الفخر والفروسية : غرضان مرتبطان في شعر الفرسان العرب ، وهذا الشعر من أصدق أشعار العاطفة ، ويقوم الفخر على الاعتزاز بالفضائل الحميدة التي يتحلى بها الشاعر أو قبيلته والصفات التي يفتخر بها الشعراء هي الشجاعة والكرم والنجدة ومساعدة المحتاج ، وهذه أبيات لربيعة بن مقروم تعرض علينا جوانب الفخر المتعددة حيث يقول :

وإن  تسألينـي  فإني أمـرؤ     أهيـن  اللـئيـم  وأخبـو  الكـريـم

وأبني المعالي بالمكـرمــا    ت وأرضي الخليل وأروي النديـما

ويّحمـّد  بذلي  لـه  مُعْتَـفٍ   إذا  ذمَّ   مـن  يعتـفــيـــه  اللئيمــا

وأجزي القروض وفاء بها   ببـؤسى بئـيسَ  ونعـمـى  نعـيمــا

وقومي  فإن أنت  كذّبتـني   بقـولـي  فاســأل  بقـومي عـلـيمـا

أليسـوا  الذيـن  إذا  أزمـةٌ   ألحـّت على الناس تـنسي الحـُلوما

يـُهينون في الحق أموالهم   إذا اللَّــزَيـَات الـْتـَحـَيـْنَ الـمـُسـيـمــا

طـِوالُ الرماح غداة الصباح   ذوو  نـجـدة  يـمنـعــون  الحريـمـا

بنو الحرب يوماً إذا استلاموا     حسبتـَهم  في الحديـد القـرومـا

التعليق :

فقد جمع ربيعة في هذه الأبيات معظم الصفات التي يفخر بها الشعراء  من : بناء المعالي عن طريق الكرم والبذل لمن يستحق العطاء والوفاء بالحقوق والانتساب إلى قوم كرام يهينون أموالهم في سبيل المجد ، ولم ينس الحماسة بل جعل لها نصيباً من فخره فقومه بنو الحرب يعرفونها جيداً ويلبسون السلاح الملائم لها . أما الحماسة : فهي الافتخار بخوض المعارك والانتصارات في الحروب ، فالحماسة تدخل في الفخر وليس كل فخر حماسة، نجد الحماسة في أشعار عنترة العبسي وعمرو بن كلثوم ، فقد كان المجتمع الجاهلي يؤمن بالقوة إيماناً جعلها من مقومات الحياة لديه ، قال قيس بن الخطيم أحد فرسان العرب :

دعوت بني عوف لحقن دمائهم  

                       فلما أبـّوْا سامحت في حرب حاطب

وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالماً   فلما أبوا أشعلتها كلَّ جانب

كانت الرجولة عندهم تتمثل في الشجاعة والفروسية والإقدام وخوض الحروب ، يقول المزرد بن ضرار  وهو شاعر فارس جاهلي :

وقد علمت  فتيان  ذبيان  أنني  

                     أنا الفارس الحامي الذّمار المقاتل

وإني أنا الكبش  والكبش جامح  

                      وأرجع رمحي وهو ريـان  ناهـل

وعندي إذا الحرب العوان تلقحت     

                       وأبدت هواديها الخطوب الزلازل

أجش صريحـيّ كأن صهيله     

                        مزامير شرب جاوبتها الجلاجل

ثالثاً : المدح : المدح هو ذكر الصفات الحسنة للشخص والثناء عليها والتغني بها وبصاحبها ووصفها بشكل محبب ودقيق ، قام شعر المديح في المجتمع القبلي مقام السجل الشعري الذي أرخ لأعلام ذاك العصر من ملوك وسادة وأبطال وأجواد وحكماء ، وعرف الكثير من الشعراء بمدائحهم ، فمنهم من مدح تكسباً وطمعاً في أن ينال مكانة عند الممدوح أو ينال شهرة بمدائحه ، عن أية مصالح شخصية ، ومنهم مدح من أجل المال وكان مقتصراً على الشعراء الذين دخلوا قصور الملوك لمدحهم بما ليس فيهم من أجل العطاء واشتهرت فيه كثرة المبالغة واشتهر به الأعشى ، ومنهم من كان صادقاً بعيداً ، من أصدق الشعر قصيدة " الحرب والسلم " لزهير ا بن أبي سلمى" حيث مدح  رجلين من قبيلتي عبس وذبيان مدحاً خالصاً لما قدماه من التوسط بين القبيلنين لوقف الحرب بينهما (داحس والغبراء) التي استمرت اربعين عاماُ ودفعا ديات القتلى من مالهما الخاص :

يميناً لنعم السيدان وُجِدْتـُما     على كل حالٍ من سجيل ومـُبـرَم

تداركتما عبساً وذُبـيان بعدما    تفانـَوْا ودقوا بينهم عطر منشـِم

التعليق :  يقسم الشاعر بقوله : " لنعم السيدان " وهما : هرم بن سنان والحارث ابن عوف من سادة ذبيان لصنيعهما المحمود ، ويأتي باستعارتين تدلان على الرخاء والشدة وهما ( سجيل ومبرم ) لكي يدل على أن فضلهما لا يظهر في الشدة فقط عند الحرب وإنما هو فضلٌ عام في الشدة والرخاء ، بعدما اقترب الفريقين من  الفناء والهلاك لكثرة القتلى والمصابين ، ويشبه حالتهم بحال هؤلاء الذين تعطروا بعطر تلك المرأة "منشم"  وهي امرأة كانت تبيع العطر وقد تعطر بعطرها قوم خرجوا للحرب فقتلوا جميعاً فضرب المثل في الشؤم فقال : "دقوا بينهم عطر منشم" وهو مثل يضرب للشر العظيم ، من حسنات زهير أنه كان لا يجنح في مدحه إلى الغلو الممقوت ، ولا يأتي بسفاسف االقول ، قال الأقدمون فيه " زهير لا يقول إلا ما يعرف ولا يمدح أحداً إلا بما فيه " ، يعد زهير من رواد شعر المدح ، وكذلك النابغة الذبياني الذي تخصص في مدح  العظماء والملوك راغباً في العطاء السخيّ  .

رابعاً : الهجاء : ظهر في الشعر الجاهلي بسبب الحروب والمنازعات والعصبيات القبلية  عفيفاً مهذباً خالياً من السب والشتم ، ولكن قد يستخدم الهجاء للتهديد والوعيد لقول الشعر الذي تتناقله العرب فيتأذى منه المهجو أكثر من التهديد بالقتل ، وكان الهجاء سلاحاً ماضياً في قلوب الأعداء فهم يخافون القوافي والأوزان أكثر من الرماح والسنان يقول مزرد بن ضرار :

فمن أرْمِه منها ببيت يـَلـُح به    كشامة  وجـه  ليس  للشـام  غاســل

كذا جزائي في الهدى وإن أقل    فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل

فهو يشبه قصيدته بالشام بالوجه لا يتخلص منها وهذا طبعه في الهـَدايا ، وإن الشعر لا ينفد ، والصوت لا يـُبـِح ولا ينقطع .والأدهى من ذلك أن كان غلام لخالد الذبياني يرعى الإبل  فغصبها ( آل ثوب ) منه فرجع  يبكي إلى سيده فذهب خالد إلى مزرد بن ضرار الذبياني فقال : إني أضمن لك  إبلك أن تـُردعليك بأعيانها ، وأنشأ هجاء يقول فيه :

فإن لم تردوها فإن سماعها    لكـم أبـداً مـن باقيــات القلائـد

فيا آل ثوب إنما ظلم خالد     كنار اللظى لا خير في ظلم خالد

فما لبث"آل ثوب" أن ردوا الإبل قائلين : لئن هجانا مزرد فقد هجانا العرب أبد الدهر . وذكر أن النابغة سأل قومه بني ذبيان بعد واقعة حسي عما قالوه في عامر ابن الطفيل فأنشدوه ، فقال : أفحشتم على الرجل وهو شريف لا يقال له مثل ذلك ولكني سأقول :

فإن يك عامر قد قال جهلاً   فإن  مطية  الجهل  الشباـب

فكن كأبيك أو كأبي براء    تصادفك الحكومة  والصـواب

فلا يذهب بلبـّك طائشات    من الخيلاء ليـس لهـنّ   بـاب

فإنك سوف تحلم أو تناهى   إذا ما شبـْتَ أو شاب  العراب

فإن تكن الفوارس يوم حسي   أصابوا من لقائك ما أصابوا

فما  كان  من سبب  بعيـد      ولكن أدركوك وهم  غضاـب

فلما بلغ عامراً ما قال النابغة شقّ عليه ، وقال :" ما هجاني أحد حتى هجاني النابغة ، جعلني القوم رئيساً وجعلني النابغة سفيهاً جاهلاً وتهكم بي " .

إلى هنا سنتوقف في هذا المقال على أن نكمل ما تبقى من أغراض الشعر الجاهلي وهي كثيرة ، ولا يتسع المقال لأكثر من ذلك حتى لا تملوا ، فإلى اللقاء ، تابعونا يا رعاكم الله .

قراءة: 

أغراض الشعر الجاهلي (2)

أغراض الشعر الجاهلي (3)

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author