الإنسان وحرية التفكير

اعتادَ الناس في قريتي على حشرِ أنوفِهم في شؤونِ غيرهم حتى إذا غابَ عن أذهانهم أمرٌ لم يُشبع فضولهم انتباهم فوراً شعورٌ لاذعٌ بالذنبِ والأسى، وددتُ لو أنِّي أجدُ طرفَ خيطٍ يصلني بمُسبباتِ هذهِ الظاهرة التي تبتعدُ بوضوحٍ جليّ عن سياق العادات الصحيّة على الصعيد الإنسانيّ بشكلٍ خاص، ولو أنَّ عائلتي الريفيّة تتحفظُ على هذا الوصف الذي تسببَ بخناقاتٍ حادة وأحياناً عنيفة، يبدأُ الأمر بحديثٍ مُنساب كانسياب الأنهار، ثمّ لا يلبث إلا أنْ يتحولَ إلى ساحة حربٍ تكتسي رداءً قاتماً مُشبعاً بالشتمِ والتعنيفٍ اللفظيّ لأنَّ لساني الذي اعتنقَ منذ نعومة أظفاري الحُرية المُطلقة قد تجاوزَ حدّهُ، ومسَّ بكرامة الإنسان الذي يحشرُ أنفه حُباً وليس فضولاً ولا من بابِ الوقاحة، ولأنني لم أعِش في كنف هذه التقاليد، ولكوني الإبن الوحيد الذي عايشَ محطات حياته في ظلِ المدنيّة الصناعيّة التي لا تُطاق لا قيمة لما أثرثرُ بهِ فأنا لستُ أصيلاً، لَكَمْ هو عسيرٌ على طالب الفلسفة والمنطق تقبلِ هذا الأمر فالأصالة فكرةٌ فضفاضة لا تحتملُ أنْ تُحصرَ بشكلٍ عبثيّ في زوايةٍ ضيّقة، كيف لي أنْ أوضحَ الأمر؟. 

 
 
لا تعودُ الأصالة إلى مكانٍ محددٍ بعينهِ بقدر ارتكازها على جوهر الإنسان الذي يشيّدهُ صاحبه وفقاً لمعتقداته وأخلاقياتهِ الساميّة، أي أنّ الأصالة موجودة في أعماق المرء، ولا تتطلبُ أجواءً مُهيئة لكي تكون ذاتَ تأثيرٍ على البيئة، فهي ستنعكسُ غالباً على ما يُبديهِ المرء من ردات فعلٍ تجاه حدثٍ ما مما سيُكسبهُ تقديراً ملموساً من قِبل الجميع، أن تُنسب الأمور إلى الأمكنة يبدو مهيناً لحدٍ كبير فهي لا تمتلكُ ألسنةً لتدفعَ عن نفسها ما يُرمى عليها من ادعاءات، ولا أن تنددَ بالأخطاء التي يرتكبها المرء في محيطها، ولن تقدرَ على مجابهة الإنسان الذي يجيدُ خلقَ موقفٍ يتلاعب به بالعواطف لكي يكونَ مُحقاً، إنها مسألةٌ تتعلق بالتلاعب بالألفاظ، ومن هذا المُنطلق احتجُ على أن يوصفَ الريفي بما ليسَ فيهِ، وكذلك الأمر بالنسبة للمدنيّ (كأفراد على قدرٍ من الاستقلالية عن المكان)، عائلتي تثمنُ الحياة في القرية، وتتعامل مع ما يقفُ على عتبتها بكل حذرٍ وشكّ، وفي المدينة يصنفونَ الريفيّ على أنه أقل منهم منزلةً وفكراً وأخلاقاً حتى يشعرونكَ بالدونيّة، أيمكنُ للأصالة أن تأخذ حيزاً في نفوسٍ كهذه؟ تعيش لكيّ تضع الآخرين في خانة أقلٍ ما يقال عنها بأنها تدعو إلى ممارسة الاحتقار؟ الحريةُ لا يمكن أن تكون شيئاً كهذا أبداً. 
 
 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
About Author