الفقر مدرسة النبوغ .. وأكثر من ذاع صيتهم وحديثهم في عوالم السياسة والأدب والفلسفة والعلوم والاقتصاد تربّوا في مهاد الحرمان، وكان حافزهم إلى التفوق، ولا ننكر أن كثيراً من ذوي الثراء قد بلغوا مبلغاً كبيراً من الفضل، ولم تشغلهم ملذات الرخاء عن التحصيل العلمي أو الكسب المادي من أبوابه المتعددة، ولكنهم قلة بالنسبة إلى الكثرة الكاثرة، ومن أشهر هؤلاء
- أبو يوسف القاضي
قصة هذا الإمام الفقيه مع أمه معروفة وذائعة، فقد مات والده وهو طفل صغير، ولما بلغ العاشرة دفعت به أمه إلى صابغ ثياب ببغداد، ليتمرن لديه، ويأخذ من الأجر اليومي ما يكفيه قوته، ولكن الولد كان يرجع إليها خالي الوفاض كل يوم، فظنت أن الصابغ سيعطيه أجر الأسبوع عند نهايته، ومضى الأسبوع ولم يأت الغُلام بشيء!
ارتابت أمه ورأت أن تتبع ولدها فلعله يلهو مع رفقاء السوء، ولكنها تفاجأت عندما وجدته داخل المسجد الجامع، يستمع إلى أبي حنيفة، فتقدمت إليه وقالت : أفسدت علي ابني، إنني فقيرة بائسة وهذا الولد يتيم لا أعوله إلا بشق الأنفس، وقد دفعت به إلى صابغ ثياب ليتعلم المهنة، فترك كل شيء واتجه إليك!
وكان أبو حنيفة سهل المأخذ، فرد الأم بأدب وسماحة، وألقى إلى التلميذ بعض ما في جيبه من النقود، وقال له : أرى فيك استعداداً وموهبة، وإن واظبت على ذلك فسوف تأكل بهذا العلم الفالوذجَ بدهن الفستق.
ومضت الأيام وذاع صيت أبي حنيفة، وصار فقيه بغداد وقاضيها، ومرة دعاه الرشيد إلى مأدبة فخيمة، فجعل أبو حنيفة يتأمل في الفالوذج الغارق بدهن الفستق وقال : رحم الله أبا حنيفة، وسأله الرشيد عن ذلك فذكر له الحادثة.
د. جونسون صاحب المعجم
صمويل جونسون : أديب ولغوي ومؤلف مسرحي وفيلسوف أخلاقي انكليزي، نشأ في أسرة معدمة فقيرة، ولكن هذا الحال لم يثنه عن التحصيل والسير في دروب العلم والمعرفة التي بلغت به إلى حد أن صنف معجمه الشهير، وعندما أتم عمله، ولم يتوفر له من الموارد المالية ما يغطي نفقات طباعته ونشره، بادر بإهداء معجمه إلى اللورد تشسترفيلد الذي كان يتباهى بمجالسة الأدباء والفلاسفة، عله يجد عنده العون، ولكن اللورد نفر منه وأوصد بابه في وجهه.
وبعد سبع سنين من الكد والعمل الدؤوب استطاع أن يوفر من قوت يومه ما يكفي، وأعلن في أحد الصحف المحلية أنه على وشك الفراغ من طبعه وأنه سوف يرى النور قريباً، ولما قرأ اللورد تشسترفيلد هذا الخبر كتب مقالاً رناناً في تقريظ المعجم وأبدى مساعدته في تغطية تكاليف النشر والطباعة، ولكنه فوجئ في اليوم التالي بهذا الرد الصاعق من الدكتور جونسون :
ليس ولي النعمة من يعاين الغريق وهو يصارع المياه تفترسه أشباح الموت من كل جانب، فيهمله ويزدريه، حتى إذا رآه على الشاطئ مد إليه طوق النجاة، كنت سأسعد بعرضك لو أنه كان مبكراً وأنا في أمس الحاجة إليه، أما الآن وقد أوشكت على تحقيق حلمي فلا حاجة لي به أبداً!
You must be logged in to post a comment.