القمرة

مقدمة      

تكون أول فهم لعلم البصريات من نظريتين رئيستين، الأولى: أننا نبصر لأن أعيننا ترسل إشعاعاً خفياً، كالليزر في أيامنا هذه، وعندما يقع هذا الإشعاع على الأجسام يجعلها مرئية، فالإبصار -بحسب هذه النظرية- يحصل نتيجة حركة الأشعة من العين إلى الأشياء المرئية، والثانية: أننا نرى لأن شيئاً ما يخرج من الجسم المرئي يدخل إل أعيننا، وهذا ما آمن به علماء الإغريق، مثل أرسطو وجالينوس وأتباعهما، لكن نظرياتهم العلمية كانت تأملية غير مدعمة والأدلة.  

علم البصريات  

          يعتبر العالم والفيلسوف المسلم الكندي أول من وضع أسس علم البصريات الحديث، وقد دحض نظريات الإغريق، حيث رأى أن مخروط الرؤية لا يتعلق بأشعة غير مرئية، بل يبدو ككتلة ذات ثلاثة أبعاد من الشعاعات المستمرة، وقد صرح العالم الفيزيائي والرياضي الإيطالي جيرونيمو كاردانو -في القرن السادس عشر- بإن الكندي يعد واحداً من اثني عشر عقلاً عملاقاً في التاريخ، ذلك لأنه بحث كيفية سير أشعة الضوء على خط مستقيم، وتناول موضوع الإبصار بمرآة، ومن دون مرآة، كما تحدث عن أثر المسافة والزاوية في الإبصار والخداع البصري، ولقد كتب الكندي مقالتين في علم البصريات الهندسية والفيزيولوجية، قام بالاطلاع عليهما واستخدامهما فيما بعد العالم الإنجليزي روجر بيكون، وذلك من القرن الثالث عشر، وكذلك فعل العالم الفيزيائي الألماني وايتلو، وذكر العالم الدانماركي سيباستيان فوغل في مقالة له كتبها في القرن العشرين، أن روجر بيكون لا يعد الكندي واحداً من سادة وجهابذة الرسم المنظوري فحسب، بل كان هو وأمثاله يأخذون من علم الكندي في مجال البصريات.

الحسن بن الهيثم

ولد أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، العالم الرياضي والفلكي والفيزيائي، في البصرة بالعراق سنة 354ﻫ/ 965م، وتوفي في مصر عام 430ﻫ/1039م، ومؤلفاته كثيرة تزيد على السبعين، ما بين كتاب ورسالة، لقب بـ(بطليموس الثاني)، تشبيهاً له بالفلكي والجغرافي اليوناني كلوديس بطليموس، وذلك لإبداعه في علم الفلك وعنايته به، وقد قيل عنه أنه كان دائم الاشتغال، قوي الذكاء، كثير التصانيف، وافر الزهد، سامي النفس، محباً للخير، سافر من العراق إلى مصر بدعوة من حاكمها ليساعد في تخفيف الأضرار التي أحدثتها فيضانات نهر النيل، وكان أول من جمع بين طريقة إقليدس وبطليموس الرياضية، وبين المبدأ الفيزيائي المفضل عند فلاسفة الطبيعة، معلناً بذلك أن دراسة علم البصريات تتطلب الجمع بين الفيزياء والرياضيات.

القفزة العظيمة

انطلق ابن الهيثم من تساؤلات الكندي البصرية، وأجرى تجاربه الدقيقة، التي مكنته من تقديم تفسير علمي بارع، حيث رأى أن الإبصار يقوم بانعكاس الضوء على الأشياء، ومن ثم بدخوله إلى العين، ولذلك أشار جورج سارتون مؤرخ العلوم الشهير في القرن العشرين، إلى أن القفزة العظيمة التي حصلت في علم البصريات تعزى إلى ابن الهيثم، الذي قدم العديد من التفسيرات العلمية لكثير من المسائل البصرية.     

البرهان التجريبي  

          كان ابن الهيثم أول من أدخل البرهان التجريبي كشرط أساسي لقبول النظرية، وهو أمر لم يكن مألوفاً في عصره، لأن علم الفيزياء قبله كان لا يعتمد على التجربة، وقد قدم في كتابه "المناظر"، الذي اشتهر باسم "الكتاب الكبير"، نقداً فعلياً لأعمال بطلميوس وغيره من القدماء، حيث درس في مؤلفه هذا طبيعة الضوء، وفيزيولوجيا الإبصار وآليته، وبنية العين وتشريحها، والانعكاس والانكسار، كما أجرى دراسات في انعكاس الضوء، ودرس العدسات من خلال تجريب المرايا المختلفة، المسطحة والدائرية والأسطوانية والمقعرة والمحدبة وذات القطع المكافئ، ورأى أن العين تعتمد على نظام انكسار ضوئي، فطبق هندسة الانكسار عليها، واكتشف ظاهرة الانكسار الجوي، واستخدم الرياضيات بكثافة لدراسة الظواهر الضوئية، وما زال الباحثون يستشهدون بكتابه هذا بعد مرور ألف عام، ليدربوا طلابهم على المنهجية العلمية السليمة، واكتساب الحس العملي، لئلا ينساقوا خلف الآراء المسبقة والأفكار المتحيزة.   

الملاحظات الدقيقة

تميز ابن الهيثم بملاحظته الدقيقة، فقد كان ذات مرة في غرفة، فلاحظ أن الضوء يدخل من ثقب صغير، في مصراع النافذة، ويقع على الجدار المقابل، على شكل نصف قمر عند كسوف الشمس، فاعتبر أن صورة الشمس وقت الكسوف، تبين ما لم يكن الكسوف كلياً، فعندما يمر ضوؤها عبر ثقب صغير مدور، ويقع على سطح مقابل للثقب، فإنه يتخذ شكلاً مخروطياً كالمنجل القمري، وبهذه التجارب أوضح ابن الهيثم أن الضوء يسير في خط مستقيم، وعندما تنعكس الأشعة من سطح ساطع، وتمر عبر ثقب صغير ولا تتبعثر، يعاد تشكيله بهيئة صورة مقلوبة، على سطح أبيض مسطح مواز للثقب، ثم استنتج أن الصورة تكون أوضح كلما كان الثقب أصغر، وأن ضوء الشمس عندما يخترق الثقب، يكون شكلاً مخروطياً عند نقطة الالتقاء بالثقب الصغير، ومن ثم يكون شكلاً مخروطياً آخر، يعكس المخروط الأول، على الجدار المقابل في الغرفة المظلمة.

الغرفة المظلمة

          لقد أدت هذه المكتشفات في مراحل لاحقة إلى استخدام الغرفة المظلمة في الرسوم على نحو كبير، واعتمد ابن الهيثم الغرفة المظلمة، ذات الثقب الصغير، لدراسة مسارات الضوء بخطوط مستقيمة، واستنتج أننا نرى الأجسام قائمة مستوية، كما تفعل الكاميرا بفضل نقطة اتصال العصب البصري بالدماغ، الذي يحلل الصورة ويتعرف إليها، والجدير بالذكر أن ابن الهيثم استخدم أثناء تجاربه العلمية مصطلح "الغرفة المظلمة"، الذي ترجم إلى اللاتينية بمصطلح Camera Obscura، وما زال الناس إلى يومنا هذا يستعملون كلمة كاميرا، شأنها شأن الكلمة العربية "قمرة"، والتي تعني غرفة خاصة أو مظلمة، وقد ترجم العالم جيرارد الكريموني -في العصور الوسطى بإسبانيا- عدداً من أعمال ابن الهيثم، وخصوصاً كتابه الشهير "المناظر"، فكان له أثر عميق في مفكري القرن الثالث عشر، مثل روجر بيكون ووايتلو، بل أن أثره امتد إلى ليوناردو دافنشي في القرن الخامس عشر، وفي عصرنا الحالي، تطورت الكاميرا من البدايات المتواضعة لغرفة ابن الهيثم المظلمة (القمرة)، إلى عملية رقمية معقدة، كما ازدهر علم البصريات وأصبح علماً متكاملاً، يشمل الليزرات وتقسيم شبكية العين إلى مقاطع، وبحث الومضان الأحمر لدى السمك الهلامي.    

المراجع

  • الحسن بن الهيثم في عجالة، عبد المجيد قاسم نصير، مجلة الكون، العدد الثالث، الأردن، 2015.
  • الحسن بن الهيثم بين عبد الحميد صبرة ورشدي راشد، يمنى طريف الخولي، المجلة العربية، العدد 457، المملكة العربية السعودية، 2015.     

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
أبريل ١٢, ٢٠٢٢, ٢:٤٥ ص - مستشار دكتور حسام عبد المجيد يوسف عبد المجيد جادو
سبتمبر ١٠, ٢٠٢١, ١٠:٠٢ م - amr
يناير ٣١, ٢٠٢١, ٢:١٠ ص - Hebatalrahman Hebatalrahman
About Author