المُسْتَغْفِرَةُ
ما تزال تذكر تلك الأيام بكل وضوح. كيف لا، و هي التي بفضلها، من بعد فضل الله، وصلت لِما تنعم فيه الآن من عيش كريم؟!
كانت أيامها تعيش رفقة ابنها، ذو الأعوام السبعة، في بيت متهالك، يقع على تخوم قرية شاع بين أهلها الفساد و معصية الله.
حين كان زوجها حيّاً، لم تهتم بتاتاً لِطِباع أهل القرية. فزوجها كان كفيلاً بصدهم عنها و عن ابنها، إن أرادوا بهما سوءاً. و مع هذا، كانت تستغفر لهم الله، و تسأله أن يهديهم و يريهم طريق الرشاد.
لكن، و بعدما توفي زوجها، خَيّم الحزن على مُحيّاها أمداً طويلاً. مما حذا بابنها لسؤالها مرةً:
- ألم تخبريني يا أمي، أن أبي ينعم الآن في جِنان الله؟ فلماذا أنتِ حزينة عليه لهذا الحد!
مسحت دموعها:
- يا بني، والدك كان رجلاً صالحاً. يخاف الله في جميع أحواله. لذا، أنا لست حزينة عليه. بالعكس، بل أنا سعيدة لأجله. لأنه، بإذن الله، سيلقى جزاء إيمانه الصادق، نعيماً خالداً لا ينتهي. لكني حزينة لأجلك و لأجلي. فوالدك كان مُعيلنا الوحيد. و لم يترك وراءه كثيراً من المال. مما سيضطرني للعمل في أقرب وقت.
- ألهذا أنتِ حزينة؟ لأنك ستعملين!
- آهٍ يا ولدي. ما زلت صغيراً، و لن تفهمني. إن أهل قريتنا، ليسوا بأولئك الأشخاص الجيدين، الذين سأرتاح للعمل بينهم.
حَكَّ الصغير رأسه:
- أهم حقاً كذلك؟ لكني دائماً ما أسمعك تستغفرين لهم!
ابتسمت:
- و هذا ما يتوجب عليك أيضاً فعله يا بني. فأهل قريتنا، و بالرغم من هيامهم في الآثام و معصية الله، إلّا أنّهم يظلون مُبتلين بكسب السيئات و إضاعة الحسنات. و ما هم، في حقيقة الأمر، سوى جَهَلة، لم يُنعم الله عليهم بالسير على الطريق القويم. و ستكون عاقبتهم وخيمة، إن ماتوا و هم على هذه الحال. فواجبنا أن نستغفر الله لهم، عَلَّهُ يتلطف بهم، و ينتشلهم من مستنقع معاصيهم... تنهّدتْ... الاستغفار يا بني، باب من أبواب الفرج و الرزق. و المداومون عليه، لا بُدَّ أن يغير الله حالهم للأفضل، و يمنحهم السكينة و الطمأنينة، مهما عصفت أو ضاقت بهم الحياة.
تأمل الابن ملامح أمه ملياً:
- و هل تتوقعين حقاً أن يتغيروا؟
- لا شيء على الله بمستحيل.
هتف الصغير فجأة:
- لماذا لا نهاجر ببساطة؟
نظرت للبعيد و هي تُتَمْتِمُ بشفتيها. عَلِمَ ابنها أنها، كعادتها، تستغفر الله. فتركها إلى أن تتكلم من تلقاء نفسها:
- ليس الأمر بالبساطة التي تتخيلها. لم يبقَ لنا أحدٌ، سوى الله تعالى. و نحنُ فقراء، بالكاد نملك قوت يومنا. فكيف نتدبر أمراً باهظ التكاليف كالهجرة؟!... داعبت رأسه، و استأنفت أثناء قيامها... سترافقني الآن لحليم، مالك البساتين و الحقول. سأسأله عملاً. من المؤكد أنه سيوافق. فنحن في موسم الحصاد. و هو بأمس الحاجة لعامِلات.
فرح الصغير، معتبراً نفسه سيذهب في نزهة للحقول و البساتين. فيما كانت أمه مغتمة حتى من قبل خروجها من البيت، لعلمها بالنظرات الشرهة التي سيُسمّرها عليها معظم رجال القرية. و هو بالفعل ما حصل. فما كادت تسير بضع خطوات، حى واجهتها نظرات عزام، بائع الفاكهة و الخضار. و قد أبقى نظراته الطافحة بالوقاحة مسمرة عليها دون حرج أو حياء. و لتخفف من وطأة هذه النظرات عليها، كلّمت ابنها:
- إذا أصبحت يوماً تاجراً، فلا تصبح كعزام.
- و ما عيبهُ يا أمي؟
- إنه يتلاعب بالميزان. و يتحين الفرصة لتنسى الزبائن باقي نقودها، فيتظاهر هو الآخر بالنسيان، ليحتفظ بها لنفسه.
ندت عن الصغير شهقة تعبر عن استقباحه لما سمع:
- إذاً، سأدعو عليه...
تداركته أمه منوهة:
- لا يا أوس، بل ادعُ له، و استغفر له الله. فما هو سوى غافل. يظن الحياة الدنيا مستمرة للأبد، و هو مُفارقها في أي لحظة!
طأطأ رأسه، و راح يستغفر. فضحكت أمه ضحكة خافتة، و فعلت مثله.
التفتا يميناً، فغابا عن عيني عزام. تنفستْ المرأة الصعداء، و أحست بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلها. لكنّ الراحة سرعان ما غادرتها. فعلى بُعدِ أمتار أمامهما، كان يجلس رعد صاحب الحانة. و قد نصب أمامه نرجيلته، و راح يستمتع بشفط هوائها، و نفث دخانها. و كما عزام، استمر رعد يحدق في صاحبتنا بمجرد رؤيته لها. هذه المرة، و دون قصدٍ منه، تولى أوس مهمة تخفيف حدة النظرات على أمه، حين سألها:
- أمي، لماذا كان أبي يحذرني دائماً من الاقتراب من هذا المبنى؟
لم تجبه مباشرة، لأنهما في تلك اللحظة سارا بموازاة الحانة. و قد علا استغفار الأم، حتى تمكن ابنها من سماعها. و إذ اطمأنت لابتعادهما بقدر كاف عن الحانة، قالت:
- لأن الناس تجتمع في ذلك المبنى، لشرب الخمر، و الغناء. و هي أعمال حرّمها الله تعالى...
قاطعها أوس مستنكراً:
- و لماذا يفعلونها رغم حرمتها؟
- آه يا بني. ألم أخبرك أن أهل قريتنا هائمون في المعاصي، و علينا الاستغفار لهم، علّهم يعودون لرشدهم؟
اعترض ابنها ضارباً الأرض بقدمه:
- لو كانوا يستحقون المغفرة، لما خالفوا أوامر الله!
قبضت على يده:
- إيّاك أن توزع مغفرة الله حسب أهوائك. فالله تعالى يغفر لمن يشاء، و يعذب من يشاء. و نحن لا ندري أيُّنا أحق بغفرانه.
- لكني لا أفهم يا أمي! أليس هؤلاء، بعيدون كل البعد عن الله؟
- في الوقت الراهن، نعم. لكنك لا تعلم الغيب. ربما يهديهم الله مستقبلاً، و يصبحون من خيرة العباد. ألم يكن والدك، رحمه الله، يحدثك دائماً عن سِيَرِ أشخاص كانوا يعصون الله، ثم تابوا توبة نصوحاً، و باتوا من عباد الله الصالحين؟
أخفض الصغير رأسه متنهداً:
- معكِ حق...
ثم نظر إليها مبتسماً:
- استغفر الله العظيم. اللهم اغفر لي و لهم.
ضحكت محبورة بروح ابنها المرحة. و أكملا طريقهما، دون أن يكف الرجال عن إطالة التحديق فيها لمجرد رؤيتها، الأمر الذي آلمها، لِحَدٍّ دفعها للإسراع في المشي، و هي في داخلها تستغفر الله، و تسأله فرجاً قريباً.
لكنّ أكثر ما أرعبها، لم تكن نظرة أحد الرجال، و إنّما نظرة إمرأة. كانت هذه الأخيرة جالسة على شرفة تنتأ من واجهة مبنى عُلِّقَ فوق بابه راية حمراء. و حالما رأت أمَّ أوس تدلف زِقاقها، راقبتها بنظرة جاحظة، و كأنّها ظفرت بصيد ثمين. و في الآن ذاته، استشعرت صاحبتنا هذه النظرات. و راحت تسأل الله أن يكف أذى هذه المرأة عنها. لكنّ الجالسة على الشرفة، ما كادت تراها تدنو من بيتها، حتى بادرتها القول:
- يا أم أوس، ألا تشرفيني بزيارة منزلي؟
التفتت مكرهة نحو صاحبة البيت:
- أنا ذاهبة لأمر ضروري يا سيدة رحاب. و عليّ تدارك الوقت.
تحدثت السيدة رحاب من أعلى الشرفة بخيلاء:
- و أيُّ أمر أهم مني؟ ألا تعرفين أني من أشراف القرية!
أومأت الأم باستسلام:
- أعلم ذلك. لكني أرجوكِ يا سيدة رحاب، دعيني أذهب بحال سبيلي.
ضحكت السيدة رحاب بصوت فاضح قائلةً:
- لكِ ذلك يا أم أوس. اذهبي حيث تريدين. لكن تيقني، بأنكِ عمّا قريب ستأتين لي من تلقاء نفسك. و حتى ذلك الوقت، فإن بيتي و زبائني يرحبان بك.
شدت على يد ابنها، و راحت تحث الخطى، مبتعدة عن ذلك المكان بأقصى سرعتها. و طوال تلك المحادثة، استمر أوس ينقل بصره بين أمه و السيدة رحاب دون استيعابه لشيء. و حين أراد استعلام أمه عما أرادته منها تلك المرأة، نظر إليها، فرآها تبكي.
- لماذا تبكين يا أمي؟
- لاشيء.
توقف أوس:
- كيف لاشيء، و أنت تبكين كل هذا البكاء؟!
جلست الأم في ظل سقيفة قش، منصوبة على قارعة الطريق:
- فقط تذكرت والدك رحمه الله.
قال أوس بنبرة مشكِّكة:
- تذكرتِ والدي أم أنها تلك المرأة؟
نظرت له شاعرةً أنها لم تعد تقوى على الاحتمال، فأردف:
- هيا يا أمي، أفهميني، عمّا كانت تحدثك؟
كررتْ:
- لا شيء. لا شيء.
غضب و صَرّح:
- أنتِ لا تقولين الحقيقة يا أمي. ألم يأمرنا الله تعالى بقول الحق؟
ابتسمتْ مستغفرة الله بصوت خافت:
- إنها تريدني أن أعمل معها.
ظهر الاستغراب على ملامح أوس:
- لا أفهم.
تأففت، مميطةً اللثام عن ضجرها:
- افهمني يا أوس أرجوك. العمل عند السيدة رحاب، من الأمور التي تغضب الله تعالى.
قال بنبرة متزلفة بعدما رأى ضجر أمه:
- أريحي رأسي يا أمي، و أخبريني ما تعمل بالضبط؟
أخفضت رأسها و هي تقول "استغفر الله... استغفر الله...". ثم أعادت رفعه قائلة:
- إنها تُساهم في الجمع ما بين الرجال و النساء بشكل يغضب الله عز و جل. فتتصيد للنساء الفقيرات، و المحتاجات للعون و المساعدة. ثم تقنعهن بالعمل في بيتها... كان أوسٌ يستمع بحاجبين مرفوعين، متظاهراً بالصدمة... و بعدما يأتي الرجال، و ينالوا متعتهم بإغضاب الله، يدفعون النقود.
أنهت كلامها، فراح أوس يتلفت حوله بذهول، كما لو كان يبحث عن حل للكلام الخطير الذي سمعه للتو. و إذ تيقن أنه لن يقدر على فعل شيء، زفر نفساً عميقاً:
- استغفر الله العظيم. اللهم اغفر لي و لها و لأهل قريتنا.
تلألأت السعادة في وجه أمه، فضمته إليها:
- أتسخر مني، أم تدعو الله حقاً؟
رفع يديه:
- بل أدعو الله بحق يا أمي... فجأة، ظهر على ملامحه تفطُّنِه لشيء ذي أهمية... ماذا عن العمل عند حليم؟ هل يغضب الله تعالى؟
- لا يا بني. أبداً. أبداً. بل هو عملٌ شريف. و بعيد كل البعد عن الحرام.
هَزَّ رأسه. و قد توهمت أمه أمارات ارتياح بانت على وجهه. فتصورت حزينة أن ابنها كبر قبل أوانه. و لم يعش طفولته كباقي أقرانه. قَبَّلت وجنته:
- هل نكمل طريقنا؟
.
.
.
يتبع في الجزء الثاني...
You must be logged in to post a comment.