شارع المتنبي

شارع المتنبي 

لا يغيبُ عن بالي سماءَ ذلك اليوم، حيث الغيوم صِفاف، بشكلٍ يوحي للشاعر أن يرسمها في قصيدة، و يتغنى بوصفها ليذهل كما جمالها الألباب.

 كنت جالسًا مع جدي في نهاية شارع المتنبي من طرف نهر دجلة، نتبادل أطراف الحديث حول خفايا هذا الشارع، و أخذ يعدد لي ما يحتويه من أسرارٍ عظيمة كنت لا أدركها، و لشدة ما و هبتُ سمعي لحديثه أذكره بالتفصيل و بنبرة الصوت ذاتها.

كيف لي أن أنسى عندما قال: يضم هذا الشارع يا بني العديد من المكتبات التي تلتف حولها الكتب و المخطوطات النادرة يضمها كأم رؤوم لتزين زواياه، إضافة إلى المباني البغدادية القديمة التي طالما تأملت جمال و روعة و دقة بنائها كثيرًا، تنقلك بألوانها و فن عمارتها للوحةٍ واقعيةٍ ضخمة، تحمل عقلك بعيدًا لتغوص مفكرًا بهذه الدقةِ البشرية اللامتناهية.  و المحاكم المدنية المسماة حاليًا بمبنى القشلة و ساعته التي تقف شامخة إلى وقتنا هذا، و كأنها تهتف أنه مهما مر من زمنٍ عصيب سأبقى أثرًا عظيمًا مثلما كنت في عهد الوالي  مدحت باشا حتى و إن غاب صوتي و لم يسمع رنيني، وفقدت عقاربي قوتها من ثقل الوقت. و يقابلها المركز الثقافي المطل على نهر دجلة إطلالةً تبثُ بالروحِ نسائم الفرح و تصبُ الدفء بالقلب صبًا ليهدأ و يطمئن، و يحتوي على عدد كبير من القاعات لعمل الندوات و المحاضرات الثقافية، تحتضن الفنانين و المثقفين كل يوم جمعة و كأنه العيد لمواهبهم و ابداعاتهم و تفريع طاقاتهم للنفع بها، و ما أبهى من وجود معرضٍ دائم للرسم على الخشب و الزجاج يجسد التراث البغدادي، و في نهاية الشارع الذي خطى فوقه التاريخ كُله، و أحبه كل قلبٍ يحمل نبضًا عراقي تتجسدُ يا جدي روح هذا الممر العريق، حيث خُتم بمسكٍ عبقُ طيبه ما زال يفوح بين ثنايا الذاكرة و طياتها، هو الأحب و الأقرب لقلبي مقهى الشابندر، الذي أصبح يعتبر الآن من الأندية الاجتماعية الثقافية المهمة في العراق، هذا الشارع الذي يجسد سوقًا لأهم و أرقى و أعظم ما أنتجته الإنسانية، شارعٌ محفوف بالكتب من كل جانب، الكتب القيمة التي جسدت وجه الأدب العربي و غيره، الكتب التي تطوي بين دفاتها حصاد تجاربٍ لعقولٍ كثيرة، تحمل بين صفحاتها اللغة و البلاغة و الأسلوب، لا وبل التاريخ بأشخاصه و أحداثه، و القصص بصدى نبضات راويها مع كل صفحة، و لتعلم يا بني أن في كل سطر من أسطرها حكمة، و لكل كلمةٍ مهما غدت صغيرة هدف نبيل، تكمل السياق برفعة حتى يغدو نصًا بهيًا، ما أعظم الكتب و ما أبلغ حبي لها و أشده. تخيل أنك حين تحمل بين يديك هاتين كتابًا تهبُ قلبك لما فيه، و تتروى بقراءته و تنصتُ لحديثه و كأنه تراتيلٌ لا يمكن أن تنقطع ، تقلب بين سطوره بصرك ليكشف لك مع كل عبارة شيئًا جديد تود لو أن باستطاعتك بعدها أن تُقبل قلم كاتبها، إنها القراءة يا ولدي مستشفى العقول و راحة الأبدان و تلافي ضياع النفس و تركها للفراغ المغلف بالذهب، أن تقرأ تعني أن تعي و تتقن و تبصر عن كُثب، بوضوحٍ أكبر و فهمٍ أعمق، و تذكر هذا لا يمكن أن تترك كتابًا أتممته بقلبٍ على نفس حاله، و لا عقلٍ على نفس فكره، ولا روحٍ على نفسِ ترددها.

إن فيها لخفايا و حلاوةٌ يتبعها طَلَاوة يصعب على من لم يقرأها بروحه إدراكها، و من لم يعيها بعقله فهمها أو تخيل لذة القرب منها.

تبددت السحب و عَمت غيومٌ متتالية غطت وجه السماءِ لتمطر، هتفت ما أرق المطر و أعذب صوته يا جدي، فقال لي مبتسمًا: أرى فيكَ شاعرًا غني الطباع مرهف الحِس صادق القول مذهلُ التعبير يا بني.

و ها أنا بعد كل هذه المدة أكتب لك يا جدي، حديثك بلغ من القلب مبلغه، و وصل إلى العقل مقصده، فتحركت الحواس لأجل نيل هذا الهدف، عملتُ بجدٍ و أسست مكتبةً بذاك الشارع جمعت فيها الكثير من الكتب ليرتادها كل عاشقٍ للمعرفة، قرأت دواوين الشعر كُلِها و حفظت منها ما سمح لي قلبي وعقلي بذلك،  لكني ما زلت أسعى لأغدو كالمتنبي في عصريَّ هذا، لأسمع شعري على كل لسانٍ محبٍ متذوقٍ له. 

جدي طيب الله ثراه لن أنسى أثر كلماتك على حياتي، و ما صنعته يداي لحبي لك، وددت لو أنك بجانبي لتراه و تفخر بي مصفقًا بحرارة بعد كل أمسيةٍ شعرية.

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٤ ص - عبد الفتاح الطيب
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٤ م - شروق
About Author