غابرييل غارسيا ماركيز "ينبوع إلهام"

لن أتحدث عن المعلومات العامة المتعلقة بماركيز، فالعديد من المواقع قد أسهبت بالتحدث عن عملاق الأدب الكولومبي، الذي يجمع العديد من رواد الأدب على أنه أشهر أدباء القرن العشرين، لكني سأتناول جزئية شكّلت نقطة تحول مفصلية في حياة الكاتب، و هي تلك المتعلقة بكتابته لمئة عام من العزلة.

إن مئة عام من العزلة هي الرواية التي ضرب بها ماركيز عصفورين بحجر واحد، فعلى الصعيد المادي، فقد انتشلته من الفقر للغنى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، و على الصعيد المعنوي، خرج من كواليس المغمورين، و نال شهرة عالمية واسعة.

يقول ماركيز أن ذهنه ظل منشغلاً طوال عشرين عاماً بكتابة رواية عن حياة عائلة، لم تكن التفاصيل مكتملة المعالم، لكن البذرة كانت مغروسة في رأسه. و في يوم، كان ذاهباً مع عائلته لقضاء عطلة على شاطئ أكابولكو، فإذا به يوقف سيارته، و يستدير عائداً إلى المنزل. فهكذا و دون سابق إنذار، نضجت الرواية في مطبخ عقله، و ما عليه سوى تقديمها للقراء.

قضى ماركيز ثمانية عشر شهراً و هو يكتب الرواية. و خلال هذه الفترة تراكمت عليه الديون،و رهنا، هو و زوجته، كل ما يملكان، و لربما لم يبق سوى أن يرهنا نفسيهما. و طبعاً ذكر ماركيز فضل بعض أصدقائه الذين كانوا يمدونه بالمؤونة و يساعداه على البقاء صامداً في ظل القرار، الأشبه بالانتحار، الذي اتخذه، و هو تعليق حياته القادمة بأكملها على كتاب!

أياً يكن، كانت ميرثيديس زوجة ماركيز مؤمنة بقدراته و لم تعارضه أبداً بالقرار الذي اتخذه، بل إنها ساندته بتوفير أجواء الكتابة الملائمة له. لكنّ جزءً من وجدانها استمر قلقاً على الدوام و هو يتساءل (ماذا لو لم تنجح الرواية؟). لقد باعوا سيارتهما الأوبل، و رهنا الهاتف و المذياع و الثلاجة و مجوهراتهما القليلة، كما تراكمت عليهما الفواتير و إيجار البيت. أي أنهما بالمحصلة، صارا غريقان بالالتزامات، و الرواية فقط هي الوحيدة القادرة على إنقاذهما قبل لفظ الأنفاس الأخيرة، هذا في حالة نجاحها. لكن في حالة فشلها... لن نجهد أنفسنا بالتفكير في عواقب هذا الاحتمال، لأن الرواية حققت نجاحاً ربما أكثر من أي رواية غيرها، و نقلت ماركيز و ميرثيديس إلى بر الأمان.

لا تهمني قصة نجاح ماركيز، بقدر اهتمامي بتسليط الضوء على تجربته من ناحيتين، الناحية الإيجابية و الناحية السلبية. فمن الناحية الإيجابية سنقول أنها تجربة عظيمة. فالرجل آمن بقدراته و مهارته، و كان مفعماً بالإصرار و العزيمة، حتى تمكن من بلوغ و تحقيق مراده. لكن من الناحية السلبية، هل يا ترى من الجيد أن يضع الشخص جميع آماله على هدف ليس مضمون التحقق؟! أنا متأكد أن هناك الكثير من الأشخاص تأثروا بماركيز، و بلغ منهم هذا التأثر أن عزموا على تكرار تجربته. فانقطعوا عن العالم، و اعتزلوا لكتابة روايتهم الخاصة. و بعدما لم تحقق روايتهم النجاح المطلوب، راحوا يحاولون سداد ما تراكم عليهم من ديون بالعمل تحت ضغوط نفسية سيئة، و لربما أصبحوا ناقمين على العالم.

لكل شخص مطلق الحرية بالنظر لتجربة ماركيز من الزاوية التي يراها. و مع أني في بعض الأحيان أرى تجربته أشبه بشراء بطاقة يانصيب، تكون نسبة فوزها واحد من مئة مليون. إلّا أني أتمنى كتابة رواية تعطيني بعضاً مما أعطته مئة عام من العزلة.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments
فاطمة عطية - أكتوبر ١٩, ٢٠٢٠, ٦:٣١ م - Add Reply

أوافقك الرأي، نتمنى أن نكتب روايةً تعطينا مثل ما أعطته لكن دون أن تكون هي باب الأمل الوحيد.

You must be logged in to post a comment.

You must be logged in to post a comment.

Related Articles