"قصة عشق ... ومات الضاد يا نون"
في عالمنا الوردي و قبل نهاية العام، سماء دامعة عنانها، رياح تعانق الأشجار العارية، تتمايل راقصة على سيمفونية الطبيعة، مودّعة أوراق الخريف، أسدل الأديب "سلام" ستارته الكرزية التي تفصله عن العالم الخارجي، بعد أن تسلّلت برودة البلور إلى جبينه الشاحب الذي لامس النافذة الندية، تخلّلت أصابعه خصال شعره الرمادي القمري، كما رمق بعينيه الملائكية كبساتين اللوز مكتبه المتأنق بمحارة ذهبية من ناحية و برقعة الشطرنج الكريستالية من الناحية الأخرى.
اقترب سلام من بيادق الشطرنج، أغمض عينيه و استجمع في مخيلته تفاصيل تلك الجولة التي لم تكتمل، حيث إنه عشق وخطيبته الراحلة "وتر" تلك اللعبة، اعتصرت قلبه غصة حين مرّ طيفها طارقاً بوابة الذكريات، تسارعت نبضاته ممزقة نياط الفؤاد، أمسك الأديب قلمه الأسود ذو الرأس الفضي - شريك وحدته و مؤنس قلبه - الذي أطلق عليه اسم "نون" قال القلم بصوته العذب كشدو البلبل: ما بالك يا سيدي؟ أجاب سلام والدمع يلمع في مقلتيه: غادرت وتر هذه الدنيا كغزالة تسابق الفراشات بعد أن ألقت تعويذة عشق على بقايا هذا الإنسان - مشيراً إلى نفسه -.
همس نون أما زلت تذكر وتر يا سلام؟ ردّ الأديب متسائلاً: كيف أنسى شقيقة الروح؟ حباها القلب وهواها، ضفائرها كسلاسل الشمس الذهبية، عيناها كحقول القمح عسلية قبل الحصاد، الورد المخملي يتدفق في شفتيها و تعلوها خال الحسن، التقط أنفاسه و أردف: ماتت يا نون ولم تحقق أحلامها، انقطع الوتر تاركاً أحمال سلّمه الموسيقّي على عاتقي، تغزّل سلام بحبيبته حتى خارت قواه و غفى.
انسابت الكلمات في بحر الأحلام و تجسّدت بطيف وتر بثوبها الأبيض كثلوج تشرين، همست قائلة: سلام يا أرض السلام لا تعبث ببركان خامد، لا تُثر غيرتي ! وقالت: هل تعشق نون أكثر مني؟ ضحك سلام ضحكة أخجلتها و قال: يا قدري الراحل أنت سجينة أفكاري، وحبك يسري بالوريد ما دُمت حياً لن أنسى لحن اسمك بالتأكيد.
أردف سلام متسائلاً : هل تذكرين قصة نون و كيف أتى؟ أجابت: أجل، فمنذ أربعين عام عندما كنت طفلاً بالخامسة سرقتَ قلم والدك من مكتبه ومن حينها لم يفارق أناملك، تبسّم و قال: إذن لا تنسِ يا وتر إن نون ابن اللغة العربية، شهد الحب وشهد الحرب، كتب لحبك أشعاراً وتغنّى بالوطن مراراً، قالت: نعم ولكن اللغة العربية قد ماتت في عالمنا، ردّ مستغرباً: وكيف ذلك؟ أردفت شقيقة الروح بحزن و أسى: ماذا تريد من أمة باتت طائها تاء و صادها سين، فصار صلاح الدين "سلاح الدين" وأصبح الوطن "وتن" لم نعد نغني موطني بل "مَوتني" هيهات عودة عنترة، الأصمعي، شوقي و ماضي و هلم جرا، قد مات الضاد يا سلام مات ... ! مات...! مات...! تكرّرت هذه الكلمات على مسمعه حتى استيقظ من حلمه غاضباً.
مرّر الأديب بنانه حول قلمه و قال: هل تعرف ماذا رأيت في منا... فقاطعه نون: نعم، أعرف فأنا من ينسج أحلامك، و أسقي ظمأ آلامك، و يضمد جراحك، أنا الماء و النار، يوماً أُثلج قلبك و يوماً أُشعلها ثورة، أنا زنزانة أسرارك، قال سلام: أتخفي عني الأسرار يا نون؟ رد نون: أجل، سر عظيم لن أبوح به الآن قط فأنا حزين، قال الأديب: ولم الحزن يا رفيق؟ قال نون: صدقت وتر حين قالت قد غدروا بأمي يا أستاذ و اغتصبوا أصولها و اغتالوا حروفها وبعثروها، مارسوا شتى أنواع التعذيب على أبجديتها، قطب الأديب جبينه و قال: سحقاً لجيلنا العابث، سحقاً للأيدي الخفية التي تحرك خيوط الدمى حيثما تشاء، سحقاً لقانون الغاب، سحقاً للقلوب المسعورة، أتلك هي الحياة التي ركلت رحم أمي من أجلها؟!
أمسك سلام القلم بيده المرتعشة و كتب بحبر الليل الحالك على ورقة بيضاء ...و مات الضاد يا نون و هنا توقف القلم عن الكتابة مختنقاً بعبراته في مآقي الورق و أردف: تلاشت آمالي، اغتالوا أفكاري و احتضر الضاد في كَلمي، مات الضاد، ماتت وتر، ماتت أحلامها.
وجّه نون سؤالاً لسلام: أما زلت تذكر أحلام وتر؟ ردّ سلام : أجل و أنت؟ قال نون: طبعاً، أحلام وتر تعزف على أوتار السطر بين حروف اسمك يا سلام، بين الحرف والآخر وطن تلو الوطن، أرادت حباً وسلاماً للأقصى والقيامة، وياسمين الشام والأرزة تسقيهم مياه الفرات والنيل وتظلّلهم ظلال الأهرام، وتحقيق حلم المليون شهيد، و راية التوحيد خفاقة على عرش بلقيس و المختار في البيضاء و الوردية و الخضراء و الخلجان، معاً يداً بيد عودة الأوطان.
قال نون: كافة البلدان وكل الأديان تسعى إلى حروف اسمك يا سيدي، فالحب و السلام وجهان لعملة واحدة وجب تداولها في كل مكان و زمان، لكن حروف اسمك تائهة أين سنجدها و نحن بحاجة ماسّة إلى ترياق سحري يخرق وتين الأساطير لإحياء الضاد بعد وفاتها، كي يعود الطاء طاء و الصاد صاد و تزدان الأبجدية بحلة العروس، و هنا توقف القلم عن النطق و الكتابة كما و قد قدم استقالة عن مهامه.
حَزِن سلام و ازدادت خيبته و حيرته و استجدى نون أن ينطق ببنت شفه، وقال: يا نون أرجوك تكلّم، أخبرني عن مغامراتك، عن حبك، حدثني عن وتر، أطلعني على سرك العظيم! أرجوك يا قلمي لا تخذلني! أرجوك يا نون؟ و باءت كل محاولاته بالفشل.
و بعد برهة من القلق و التفكير سرعان ما تسربت إلى عقل سلام جدائل الأمل والتفاؤل و همس قائلاً: يا نون لو جفّ حبرك يوماً سأكتب بدمعي و دمي، كما سأطلعك على حرفين هاربين من تلك الجملة المكتوبة على الورقة البيضاء لتصبح ... ما مات الضاد يا نون.
وهكذا قرر نون أن يعلن نهاية صمته وأوقَف الحداد الذي خيم عليه و كله ثقة وإيمان بصديقه وقال: كيف ذلك يا صديقي؟ ردّ سلام: سأخبرك و لكن بشرط أن تخبرني السر الذي تخفيه عني! أبدى نون موافقته و قال: هات ما عندك ما الدليل؟ قال الأديب بصوت هادئ: قد غاب عنك عهد رب الكون الذي تكمن قوته ما بين الكاف والنون وقال: "كن فيكون" ، وعاهد البشرية وسيد الأنام بقوله العظيم "إنا نحن نّزلنا الذكر وإنا له لحفظون" وقال: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون" فالقرآن بلغة الضاد، والرحمن حاميها لآخر الأزمان.
وحينها اطمئن نون و طأطأ رأسه خجلاً و قال مستنكراً: من قال إن الضاد مات؟ فالضاد حق والله دوماً مع الحق، قال سلام: و نعمَ بالله، حان دورك ما سِرك؟ قال نون: أستاذي الغالي أردت أن أخبرك بأنك لست سارقاً، فمنذ أربعين عاماً وضعني والدك على سطح المكتب كما وقد وضع الحلوى بجانبي و قد تحدّاني بأنك ستختار الأفضل، و أنت اخترت نون وأنا فخور بك حقاً ، تفاجئ سلام وقال مازحاً متحسراً: لو تذوقت الحلوى ...؟ قال نون : لقضيت وقتك على كرسي طبيب الأسنان، ضحك الاثنان ضحكات تكسر قيود اليأس، تخرق عتمات الظلام بسهام النور والأمل، حالمين بالحب والسلام.
ما مات الضاد يا نون … ما مات الضاد يا نون …
بقلم آية البير ৡ ✍
جميلة❤❤
متألقه كالعاده 💞
You must be logged in to post a comment.