كيف يمكن تحديد دلالة اللفظ القرآني تحديدا دقيقاً؟

    فكرة الأصل اللغوي فكرة قديمة تنبه لها الخليل بن أحمد، وبنى عليها معجم العين، وتابعه عليها جميع اللغويين من بعده، وهي تقوم على إرجاع جميع الألفاظ من مادة لغوية واحدة إلى أصل واحد، ثلاثي غالبا، ورباعي نادرا، اشتقت منها جميع الألفاظ التي تتفرع عن تلك المادة، واعتماد العربية على أصول ثلاثية غالبا ورباعية نادرا لا يقتصر عليها، وإنما تشترك في ذلك مع أخواتها الساميات.

       وقد تطور فهم اللغويين لفكرة الأصل اللغوي بمرور الزمن حتى جاء أحمد بن فارس فوضع في ذلك معجمه القيم "المقاييس في اللغة" وأسسه على الأصول اللغوية ، وما يتفرع عنها من دلالات، قال في المقدمة:" إن للغة العرب مقاييس صحيحة وأصولا تتفرع منها فروع، وقد ألف الناس في جوامع اللغة ما ألفوا ولم يعربوا فيشئ من ذلك عن مقاييس من تلك المقاييس ولا أصل من تلك الأصول، والذي أومأت إليه باب من العلم جليل، وله خطر عظيم.

أولاً: دراسة اللفظ من خلال المعاجم وكتب العربية المختلفة؛ لبيان أصله اللغوي الذي أخذ اللفظ منه، وغالبا ما تكون الدلالة في مبدئها دلالة حسية ترتبط بالبيئة التي نشأت فيها، حيث " من الملاحظ عند علماء اللغة المحدثين أن المعاني الحسية أسبق في الوجود من المعنويات، وأن المعنويات فرع من الحسيات بطريق المجاز، غير أن أصحاب المعاجم العربيـة لم يفرقوا بين الحقيقي والمجازي في هذه المعاني الكثيرة التي جمعوها للكلمات في معاجمهم".  

ثانيا: الربط بين الأصل اللغوي وبين المعاني الجديدة التي تفرعت عنه، وهي المعاني التي أضافها الإسلام إلى اللفظ بحيث أصبح اللفظ القرآني يحمل دلالات جديدة تماما، تكاد تنسينا تلك الدلالات القديمة التي كان العربي يعرفها بداهة قبل الإسلام، ولقد أحدث القرآن ـ باستعمالاته الجديدة للألفاظ ـ تغيرا هائلا في العربية لا يقل خطورة عن التطور الذي أصاب الحياة العربية ذاتها في كل جوانبها بمجئ الإسلام. ويوضح ابن فارس تلك الصبغة الإسلامية على الألفاظ بمجئ الإسلام، وذلك  التغير الذي طرأ على دلالات تلك الألفاظ ؛ حتى تتناسب مع تعاليم الدين الجديد . وقد أعطى ابن فارس بعض الأمثلة، نحو المؤمن والمسلم والكافر والمنافق. قال ابن فارس:" وإن العرب إنما عرفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق، ثم زادت الشريعة شرائط وأوصافا بها سمي المؤمن بالإطلاق مؤمنا ، وكذلك الإسلام والمسلم، إنما عرفت منه إسلام الشئ ثم جاء في الشرع من أوصافه ما جاء، وكذلك كانت لا تعرف من الكفر إلا الغطاء والستر، فأما المنافق فاسم جاء به الإسلام لقوم أبطنوا غير ما أظهروه ، وكان الأصل من نافقاء اليربوع". 

 ثالثاً: دراسة اللفظ القرآني دراسة سياقية؛ أي دراسته في سياقه القرآني الذي استعمل فيه. وقد تكون في بعض الحالات المعين الوحيد للوصول إلى الفروق الظلال الدلالية التي تفرق بين ألفاظ لا تفرق بينها المعاجم ولا كتب اللغة والتفسير وتعدها مترادفة. وجدير بالذكر أن دراسة السياق تحتاج كذلك إلى علم مناسبات النزول، وقد نبه الزركشي إلى أهمية دلالة السياق في توضيح معاني الألفاظ، فقال:" إنها ترشد إلى تبين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخضيض العام وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره ، وغالط في مناظراته".