مرافعات أمام ضمير غائب
على استحياء يأتي الصباح ، يواري شمسه الخجلى من بؤسنا، تاركا صقيع النقب يشق طرقه الى عظامنا ، متسللا الى أعماقنا العطشى عبر شقوق جلدنا الجاف... أمربنظري على وجوه الأسرى حولي، وقد تركت قسوة الصحراء بصمتها على وجوههم، لكنها لم تنل يوما من بريق العزيمة في عيونهم، وأنى لها أ ن تذهب دهشة ابتساماتهم العذبة، التي تظهر شفاههم المتشققة كشلال دفء؟ يتنهد أبو العبد على (برشه) بجانبي، فألتفت إليه، وأبتسم، أعرف هذا الصباح جيدا، صباح المحاكم الهزيلة، والمهازل البائسة، ينظر كلانا إلى بوابة القسم، وكأننا من فرط ما خضنا غمار هذه جربة البائسة قد حفظناها عن ظهر بؤس.
كالعادة يأتي الجنود مدججين بالجريمة والسلاسل؛ لينادوا: الشاويش ، أحضر هذه ال أرقام للمحكمة
- أرقام، نحن في عرفهم مجرد أرقام ! أقول لنفسي كي لا يكسرني الأسى:
نحن أهل الأرض، وهم العابرون.
- هيا أسرعوا رددها بعبرية خليطة بقليل من العربية وكثير من السادية .
كان صابر الذي مثل أمام محكمة الإداري للمرة الثلاثين، أكثرنا سخطا على هذه المهازل التي يجبرنا الاحتلال على المشاركة فيها؛ ليزين وجهه القبيح، ويوهم العالم أنه يحتجزنا، بعيدا عن أحبتنا، لسبب قانوني، فما السبب الذي لا يمكن للادعاء ذكره في ملف الاتهام؟
كانت تلك اللحظات التي نلتقي فيها أثناء نقلنا إلى المحكمة، صراعا مريرا بين يقيننا بعبثية محاكمهم الصورية الجائرة ، التي ترسخ الاعتقال الإداري المخالف لكل المواثيق الدولية، وخيط الأمل الذي لا يستطيع قلب الأسير المتلهف للحرية إلا أن يتعلق به ، ويسألنا صابر كعادته كلما التقينا في حافلة للمحكمة: هل ستترافعون أمام القاضي؟ ونجيبه، ونحن نحدق بخيط ال أمل الرقيق : يكفي أ ن نزعج القاضي بمرافعتنا، لعله يبصق على كرسي العدالة المزيف.
نزلنا من صندوق (البوسطة) ، لتبتلعنا زنازين انتظار ضيقة تكتظ بالرطوبة والبؤس والترقب. سياط تلهب أرواحنا ، فيخلد كل منا إلى تأملاته التي تقطعها أصوات الجنود وهم يستدعون ال أسرى واحدا تلو اخر؛ للمثول أمام النيابة . واستدعاني الجنود للقاء المحامية التي ستترافع عني ، سرت والصراع يحتدم داخلي، لا يستطيع الأسير الإداري مهما بلغ به يقين البؤس أن يوقف خيط الأمل الرقيق عن العبث بقلبه.
قلت لها: أريد الذهاب إلى المحكمة العليا في القدس، فلربما أجد هناك من القضاة من يسمع ويعقل.
قالت: دعك من هذا، فالقضاة في العليا أشد سوءا، هذه المرة عليك أن تتكلم ، وتحاكمهم ،وتحاكم ضمائرهم.
قلت: سأتكلم ، رغم يقيني أن لا جدوى .
استعرض طاقم المخابرات عضلاتهم ومعلوماتهم التي لم تتعد كوني خطيرا على أمن المنطقة (كما يزعمون) ، ولي ملف سري لن يتم كشفه إلا أمام القاضي وحده .
- أتريد أن تقول شيئا؟ أشار إلي القاضي، وترجمها جندي جيء به لهذه الغاية.
- لقد قلت أشياء كثيرة، ولم تسمعوها، فهل ستحكمون ضمائركم هذه المرة ؟ إنكم تصادرون حريتنا بذريعة خوفكم منا، فهل خوفكم منا غير المبرر تهمة ؟ إنكم تحاكمون نياتنا التي لا تعرفونها، وتعتبروننا، بسبب وهمكم، خطرا على أمن المنطقة، وأنا أعتبر ملفكم السري ذريعة لاضطهاد إنسانيتي .
بدت علامات على وجه القاضي لم أفهمها، ثم غير جلسته، ولم لأغير من لهجتي، وواصلت: لقد أمضيت في سجونكم اثني عشر عيدا بعيدا عن أهلي وعائلتي دون تهمة، سوى هواجس مخابراتكم، فماذا تريدون أكثر؟
انتهى يوم المحكمة الطويل الشاق ، وعدت أنا وأبو العبد إلى القسم، وأسلم كل واحد منا جسده المتعب للبرش، وغط في قلق عميق.
حين جاء الجندي يحمل أسماء من قررت محكمة الإداري الإ فراج عنهم ،متد عنقي ، وتوثب أملي،
وتسارع (الأدرينالين) في جسدي،وناديت الشاويش بأعلى صوتي: هل ورد اسمي؟ فتهللت أساريره: نعم، قم، اسجد لربك .
وقبل أن يستوعب قلبي الأمر، عم الهتاف والتكبير أرجاء القسم،وعلت وجوه الأسرى بشائر فرح، وفي عيونهم دموع وأمنيات وترقب وعد طال انتظاره.
جهزت نفسي، وجلست وقلبي متلهف، وعيناي شاخصتان نحو بوابة القسم، متى ستأتي الحافلة، وتقلنا إلى حدود بلدة الظاهرية؟
جاءت أخيرا، فألقيت اخر نظرات الوداع صوب إخواني ،ولزمت صمتي، فالمفردات قاصرة، وماذا بوسعي غير التقنع بالصبر والتجلد ؟ ومضيت نحو الحافلة مقيدا، حتى وأنت في طريقك للحرية يجب أ ن تكون مقيدا! مضت ساعة وأكثر، تدقيق، وتفتيش وفحص وأسئلة، ماذا سنهرب معنا غير جبال الحزن التي تنوء بحملها قلوب الأسرى؟ ماذا غير امالهم بعناق وطن لا تقطعه الحواجز، ولا تبتلع المستوطنات أراضيه؟ وطن بلا جراح، بلا هواء ملوث ، بلا طفولة معذبة، بلا إنسانية مصادرة .
وتحركت الحافلة، فرقص قلبي، ولكنها سرعان ما توقفت .
- لطفك يا الله.
يسأل الضابط عني، ويقول: لقد حصل خطأ، أنت ستعود للسجن
وساد صمت أحال الفرحة غصة، وامتلأت الوجوه أسى وحزنا. ، وسمعت صوتا تخنقه العبرة : يا أخي،
لا تحزن ، خل أملك بالله كبيرا ؛ فمن يحقق الانتصار على ذاته، أحرى به أ ن ينتصر على سجانه، إنما يسجن الأحرار لا القواعد.
عادت الحافلة أدراجها، وعدت لقيدي من جديد، تحملني السجون وهنا على وهن، ويحملني الأمل إلى ساعة لابد ستأتي، وشمل لا بد سيلتئم، ووعد لا بد ات
You must be logged in to post a comment.