عندما تجاوز الستين من عمره، سرى الوهن في جسده النحيل، وصار يضع على عينيه نظارة سميكة، ويستعين بالعكاز والمنشطات والمقويات والمسكنات. وعندما منعه الأطباء عن تناول السكر والدهون، ونصحوه بتجنب السفر والسهر، وقراءة الصحف والتوابل والنساء، قال لهم ساخراً: لا حاجة لذلك، فقد منعني عنها (أخو مرّة) حينذاك.. انفرد بنفسه، في بيته المتواضع.. تناول دفتراً وقلماً، وقرر أن يدوّن سيرته الذاتية. كتب:كانت البداية عندما ولدت منذ ستين عاماً....توقف القلم في يده.. شحّت الكلمات.. فكّر طويلاً، نقّب في زوايا ذاكرته، قلّب صفحات الماضي... سنوات الطفولة والشباب والرجولة.. لم يجد شيئاً يستحق الذكر. تساءل بمرارة: ستون عاماً ضاعت سدى. هدرت دونما تحقيق أمنية أو هدف.. عشتها على الهامش.. وهأنذا أنتظر...تساءل: ماذا أنتظر؟! بعد تأمل طويل أضاف بيد مرتجفة: وها أنا بعد ستين عاماً أنتظر النهاية. ثم رفع القلم وطوى صفحة الدفتر.
..
غرق المختار في صمته..سوف يقابل مدير المشروع، نعم، سيقابله حتى لو انتظر ساعات وأياماً ويقول له: إنه لا يقف ضد إنجاز حضاري كهذا، ولا يعترض عليه. لن يقدم اتهامات أو ملاحظات.. فكل كلمة تحسب عليه. سيقول كلاماً منطقياً معقولاً، وهو يتقن فن الكلام والحوار والمحاكمة. يثني على المشروع وعلى العاملين فيه، ويثمّن عالياً فوائده وخيراته للبلد. ثم يرجو المدير أن يوقف تعيين أبناء قريته. لا لشيء، إلا لأن القرية تكاد تصبح أطلالاً مهجورة، ينعب فيها البوم، بعد أن نضبت قواها العاملة. وفي هذا ضرر على الاقتصاد لا يرضاه أحد. هذا الكلام كله، وغيره، وأكثر منه. قاله للمدير عندما وقف أمامه. فابتسم المدير وقال: تِكرم يا مختار. أنت على حق. الأرض بحاجة لمن يعمل فيها أيضاً. سوف أرد كل طلب يردني من أبناء قريتك. انفردت أسارير المختار وأشرقت ابتسامته، فخرج من مكتبه شاكراً مستبشراً متهللاً. وما هي إلا لحظة، حتى كان يدق الباب ويدخل إليه قائلاً بتردد: أستاذ.. طلب أخير، إذا سمحت..تفضّل يا مختار. صمت المختار برهة.. أمسك لحيته البيضاء بأطراف أصابعه وقال بمسكنة واستجداء: عندك شغل.. لهالختيار.
You must be logged in to post a comment.