كان الكاتب يقف على رصيف الشارع، يلف جسمه النحيل بمعطفه، اتقاء البرد والمطر... في حلقه غصّة، وفي ذهنه سؤال: هل كانوا يكرمونني حقاً؟! سبعون عاماً وسبعون كتاباً، وهذه الشهادة الورقية والوردة فقط!!. لم يمتلك بيتاً أو سيارة، يعيش على راتبه التقاعدي، ويشدّ الحزام على بطنه الضامرة. طوى الشهادة ودسّها في جيب معطفه... نزع الشريط الأحمر والورق الشفاف عن الوردة.. قرّبها من أنفه.. لا رائحة لها أبداً، فقد كانت وردة صناعية.
..
كان يتقدمهم.. يثير حماسهم كلما فتر، ويؤجج نارهم كلما خمدت.. يهتف فيرددون وراءه. يصرخ فيشتد صراخهم ويصيب الآذان بالصمم. عرفوه صاحب موقف وقضية، يتحدث بطلاقة، ويتصدى للمحاضرين بالحوار والجدل. يقرأ الصحف وكتب الفكر.. في حديثه مفردات ومصطلحات يعجبون بها، رغم أنهم لا يفهمون أكثرها، وفي عباراته وعود وآمال تدغدغ أحلامهم وتتلمس آلامهم وأوجاعهم. أمام المبنى الكبير، الذي كان بابه مغلقاً في وجوههم وقفوا. برزت من نافذة الطابق الثاني وجوه ممتلئة صقيلة، وعيون خبيرة.. رجال لم تحرق الشمس جلودهم.. لم تضمر بطونهم أو تتقرّن أيديهم وأرجلهم. مسحوا بعيونهم وجوه الغاضبين.. ركزّوا نظراتهم عليه، تداولوا الحديث فيما بينهم همساً.. هزّوا رؤوسهم وأشاروا إليه وقالوا: تقدّم أنت.. نيابةً عنهم. هتف أصحابه بحماس: نعم.. هو من يمثلنا. صفقوا له بحرارة، وهو يدخل من الباب الذي أُغلق دونهم، ووقفوا صامتين، يتبادلون النظرات فيما بينهم، بعد أن اختفى الرجال وراء النافذة. طال انتظارهم، والشمس الغاضبة تلفح بوهجها وجوههم المتغضنة، والعرق يبلل أجسادهم وثيابهم. وعندما أطل من النافذة، ساد صمت وسكون وترقب. عيونهم شاخصةٌ إليه، آذانهم مفتوحة، وقلوبهم تدق كطبول المسيرات والاستعراضات. بدا لهم مختلفاً تماماً، حتى أنهم شكّوا أن يكون صاحبهم الذي دخل من الباب. نظر إليهم بضيق وغضب، وبلهجة لم يسمعوها منه من قبل قال يخاطبهم: ما هذه الغوغائية؟! تفرقوا. عودوا إلى أعمالكم وبيوتكم. وإنني أحذّركم من خطورة موقفكم هذا. ومن لا يمتثل لما أقول يتحمّل العاقبة ويستحق الجزاء. ثم أدار لهم ظهره وأغلق النافذة.
You must be logged in to post a comment.