•••
كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هنالك ملكٌ يعيش وحيدًا في قلعة سوداء متهالكة، تنعق الغربان فوق أسوارها ويلفها الضباب من كل جانبٍ كرداءٍ رمادي باهت..جلست فوق تلٍ شامخ ترمق المدينة أسفلها بنظراتٍ جامدة، تلك المدينة التي تنكرت لحال القلعة، بمنازلها الأنيقة، أسواقها الصاخبة وصدى الضحكات الذي - ما إن يصطدم بالجرف حتى يتبدد كما لم يكن.
كان الملك جالس على عرشه، السكون يلفه من كل جانب. الهواء يبدو ثقيلًا، مرتجًا، وربما حتى مذعورًا قليلًا..لم يكن هنالك ما يدل على أنه على قيد الحياة سوى تحركيه لجفنيه كل آن وآخر بثقل ملحوظ، حتى أنفاسه، كانت سطحية يكاد إنبساط رئتيه وإنتفاخها لا يرى بالعين المجردة، خصوصًا خلف ذلك الدرع الأسود. المحيط به..كما لو أنه وُجد هنالك منذُ الأزل. للناظر، بدا المشهد بآثره كصورة مختذلةٍ من كتاب تاريخي. كقصةٍ لمحاربٍ لم تنتهي بعد. وهذا ما كان.
كان رجلًا خسر كل شيءٍ في ليلة واحدة. حتى عينيه...
رغم ذلك لم يخفت بريقهما. ظلت ومضات من الماضي تشعل روحه، تبعد عن فنائها ظلال الموت.
كان -كلما أغمض عينيه- سمع صرخات تبدو قادمةً من بئر عميق. من حفرة ظل وعيه يتآرجح بداخلها -دون السقوط- مرارًا وتكرارًا.
آلسنة اللهب تتراقص حوله، بدت له، ضاحكة، تهمس بشماتة: سنحيل كل ما حولك للعدم...إلا أنت...إلا أنت.
تردد صدى ضحكاتها كالأجراس في مسامعه، مرةً بعد مرة. قبضتاه تكورتا وأشتعلت عروقه بغضبٍ بارد.
"كان عليّ أن أقول نعم."
تذبذب الهواء من حوله بصوتٍ بدا قديمًا قدِم الزمن نفسه.
سمع صوت إنقطاع حبلٍ جعل جسده يرتج.
" كان من المفترض أن يحترق كل شيء. كل شيء. حتى أنا. كان من المفترض أن يحال كل شيءٍ للرماد!"
نهض ومع نهوضه طارت الغربان فزعة وزمجرت الغيوم في السماء...
إتجه نحو البوابة، بخطواتٍ ثقيلة، بخطوات رجلٍ لم يعد يخشى شيئًا، خطواتٍ ثابتة في طريقٍ لم يكن يراه لكنه يحفظه عن ظهر قلب. هدرت في صفحة ملامحه ذكريات صاخبة، وعيه إندثر، وشعرَّ بأنه آلة، مجرد آلة تجسد الموت.
رغم ذلك، لم يفلت عقله حبل سؤال واحد ظل يطفو فوقه مع كل خطوة...
لماذا الآن؟ بعد كل هذه الأعوام؟
أشتدت قبضته حول سيفه وابتسم.
"صحيح."
حدث نفسه بهدوء:
"تذكرت."
" إنها الذكرى ال٣٨ لتلك الليلة."
وبالفعل، ما إن خطى خارج أسوار قلعته المنيعة حتى رأى بأم عينيه آلسنة اللهب تتصاعد نحو السماء، كانت المدينة مكتسية لونًا قرمزيًا ساحرًا ونوتات الموسيقى تتراقص في الهواء.
كانوا يحتفلون،
٣٨ عامًا مضت منذُ أن فتح ذلك الجيش أبوابها ونالوا حريتهم.
خطوة خطوة، شعر بالنيران تزحف في صدره.
لقد تذكر بوضوح ذلك الألم.
.
.
"إنهم يحاصروننا تمامًا، إن عددهم يفوق العشرة ألاف! لن نستطيع أن ننتصر!"
"دعنا نقبل بعرضهم. فلنستسلم."
نظر عميقًا في عينيه وعلم الجواب دون أن يتفوه بكلمة.
.
.
"ليتني قلتُ نعم."
كررها. السيف بيده، مشعلٌ متأجج اللهب في الأخرى.
كانوا يحتفلون، منغمسون في سعادتهم اللحظية، ولم ينتبهوا له.
لترنيمة الإنتقام الهادئة التي تكاد أن تصيبهم بالصمم.
لم يرَ سكان تلك المدينة...النهاية التي تربصت بهم. خلف عينين مغلقتين وجرحٍ نازف.
لم يسمعوا الخطوات الهادئة لهلاكهم، لم يفهموا أن لكل خطأ عاقبة، حتى وإن طال به الزمن، لم يعلموا...أن من تناسوه عمدًا...
كان هو قدرهم.
You must be logged in to post a comment.