استيقظ من حلمه بغتة، وإذ بكل تلك الضوضاء التي كانت تحيط به يطعنها الصمت القاتل وكأنما تم قمعها بكبسة زر. لا جمهور، لا هتاف، لا ورود تتسابق في الاصطدام به، لا عربة ولا ملابس ملكية فاخرة ولا تاج يزدان به رأسه ويخطف الأنظار كلها نحوه، ولا زمرة من الخدم والحشم والجند والعبيد تحيط به، ولا فتيات يبحلقن في مفاتنه ويتمايلن أمام وسامته الخلّاقة. لا شيء. استيقظ ومشاعره مختلطة ما بين الإعجاب الشديد بذلك الحلم اللذيذ، والحزن الفاحش على انتهائه.
وبعد بضع دقائق من الشرود بعيداً عن أرض الواقع، نهض من على سريره المفروش بالحصير والتبن، وملأ دلواً ليغسل وجهه ويديه، وتناول فطوره المكوّن من الفول والبيض مع نصف رغيف خبز ثم استأنف عمله المعتاد في الحظيرة والمزرعة من بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس.
وفي رحلة العودة إلي سريره البالي، تذكر ذلك الحلم، وتوالت الليالي والأيام وهو يجد في ذلك الحلم مفراً لذيذاً من روتينه الممل، واشتهاء قاسٍ لتجربة مثل هذه الحياة؛ حياة الملوك.
وبالرغم من أنه كان يحب حياة المزرعة وقضاء الوقت مع الحيوانات، فقد سمح لليلة خرافية واحدة أن تصير وسواساً قهرياً يسيطر عليه، وأصبحت حياته بعدها ما هي إلا سلسلة من التذمر والسخط والمرارة، وصار شروده هو المخرج الأوحد من واقعه، ولذته الوحيدة في يومه وليله.
ومع مرور الايام أدرك أن هذا الوضع لا يمكن احتماله، وأنه لا بد من حل، وأن الحل الوحيد بالنسبة له لهذا المأزق هو.. أن يصير ملكاً بالفعل!!
ذهب إلي مشعوذة ذات صيت في البلاد. كان الازدحام عندها شديداً، فقد كان الجميع يذهبون إليها. حتى أن الملك نفسه كان يذهب إليها أحيانا أو يستدعيها إلي قصره.
وبعدما طال انتظاره تحت الشمس الحارقة، جاء دوره أخيراً، فدخل إليها..
"أريدك أن تساعديني في أن أصير ملكاً!"
"ماذا؟!" قالتها وهي تتفرس في ملابسه الرثة..
"وما شأنك أنت والعائلة المالكة؟“
"هذا ليس عدلاً، أن تقتصر الحياة الرغدة على عائلة واحدة فقط. أريد أن أعيش أنا أيضاً تلك الحياة".
" إذا فلتعمل وتكسب المال وتصير ثرياً".
" كلا، لا أريد أن أكون فقط ثرياً، أريد أن ينحني الجميع احتراماً لي، أريد أن أكون الأعظم".
"إذا فلتعامل الجميع بأمانة ولطف ولسوف تكسب محبة واحترام الكل"
"كلا، أنا أريد ما هو أكثر من ذلك"
"ولكنك لست حتي من عائلة الملك، فحتى لو مات الملك فلا فرصة لك على الإطلاق".
"إذا افعلي شيئا، وسأعطيكِ ما تريدين".
"إن طموحك ليس واقعياً، وأخشى أن ما تطمح إليه لا سبيل له سوى الطرق الملتوية، وحاشا لي أن أساعدك في هذا الأمر الذي يعد خيانة لمولاي".
"هكذا إذا؟ أنا كنت سأدفع لكِ ثمن مساعدتك لي، ولكن الآن أنت ستدفعين ثمن عدم مساعدتك لي".
غادر الشاب متوعداً، وقد عقد عزمه على تحقيق حلمه المزعوم. وفي المساء عاد لمنزله المتواضع ومعه كتاب دُوِّن فيه تاريخ الملك، عرف فيه أن للملك ابنين : (سيمبوس) و(ديبوس).
(سيمبوس) مات منذ خمسة وعشرين عاماً وهو في العام الأول من عمره بسبب مرض السل. أمل (ديبوس) فهو مازال حياً ويعد الابن الوحيد للملك وهو في السادسة عشر من عمره.
فلمعت في ذهنه فكرة شيطانية، لماذا لا يتظاهر أنه (سيمبوس)، وأنه كان على قيد الحياة طوال هذه المدة ولم يمت؟
ولكن كيف سيصدقه الملك؟ ولماذا يصدقه؟ وبم سيجيب إذا سأله الملك أين كان طوال تلك السنوات وكيف افترق عن القصر؟
جمع الشاب كل ما يملك من مال، وذهب في اتجاه القصر، وهناك سأل أحد الحراس الواقفين بالخارج كيف يجد حاضنة الأمير، فأجابه -بعد أن سلمه الشاب سّرة عملات نقدية- بأن الحاضنة قد تقاعدت منذ زمن، وأنه سيخبره بعنوان منزلها إذا أعطاه سرّة نقود أخري.
وفي المساء ذهب إلى الحاضنة، وسألها ما إذا كانت تعرف (سيمبوس) الأمير المتوفي، فأجابته بالإيجاب.
"لقد حملته بيدي، ذلك الطفل المسكين كانت بانتظاره حياة حافلة، ولكن المرض اللعين لم يقبل بالاستسلام إلا بعد أن يقبض روحه ويطرحه جثة هامدة".
"هل كانت لديه علامة مميزة أو ما شابه؟ شئ مثل وشم أو ندبة في جسده..".
"كانت لديه وحمة في ظهره أسفل كتفه الأيسر، كان شكله هكذا.. "
ثم تناولت ورقة وقلماً ورسمت شكل الوشم..
شاهدها الشاب وهي ترسم شكل الوشم باهتمام شديد.. ولم تلبث أن رفعت القلم من علي الورقة حتي سحب الورقة بحماس كبير، ثم قال وهو يتهيأ للرحيل:
"شكراً لكِ، إن هذا هو كل ما أحتاج لمعرفته".
"ولكن لماذا تحتاج إلى هذه المعلومات؟".
"آ.. انني.. اممم، أعتقد أنني قد رأيت الأمير حياً".
بسطت الحاضنة ثغرها في سخرية، قائلة:
"إن هذا مستحيل، لقد مات الأمير قطعاً، وقد تم دفنه في جنازة شهدتها المملكة كلها".
انقبض قلبه لوهلة، فمعنى كلام الحاضنة أنه سوف يستعصى عليه كثيراً أن يثبت للملك أنه (سيمبوس)، بل وقد يأمر الملك بإعدامه بتهمة محاولة انتحال شخصية الأمير..
في اليوم التالي ذهب الشاب إلى صانع وشوم ماهر، وطلب منه أن يصنع له وشماً بالأوصاف التي ذكرتها الحاضنة، وأراه الصورة التي رسمتها..
استغرق الأمر منه بعد ذلك شهراً كاملاً حتى يستجمع شجاعته للمثول أمام الملك واخباره بتلك القصة الجريئة.
وبالفعل وبعد مشقة كبيرة استطاع أن يقابل الملك وجهاً لوجه..
"أبي! ألم تعرفني؟!“.
"ما الذي تقوله يا هذا؟ هل تَمثُل أمام الملك للمزاح؟".
"أنا أعرف أنه من الصعب عليك تصديقي، ولكن فلتسمعني يا جلالة الملك، ولتدرك ما حل بإبنك وما فعلوه به.. هذا أنا، أنا أكون (سيمبوس) ابنك!!".
بُهت الملك، وكأن سماع تلك الجملة قد أحيا لديه شعوراً باللهفة والرغبة القوية في أن يكون كلام ذلك الشاب صحيحاً، وأن يكون ابنه حياً وأن يراه..
"هل تعرف ما عقوبة شخص مثلك يحاول أن يضلّ الملك؟ لقد مات (سيمبوس) منذ خمسة وعشرين سنة، وقد دُفن وشهد الجميع وفاته، فمن أنت لتقول هذا الهراء؟!".
"كنت أعرف أن مولاي لن يصدقني، ولكنني ألتمس من جلالتك ألا تتسرع وتقتلني بعدما عثرتَ عليّ. وإن كنت تقول أن الجميع شهد وفاتي، فهل شهد الجميع أن الأمير الحقيقي يمتلك وحمة فريدة مثل هذه، والتي لا يعلم بأمرها سوي الملك والملكة، أي أبويه؟".
استدار الشاب وقد نزع ملابسه عن كتفه الأيسر، فذُهل الملك ما أن رأى الوحمة، ولم يتمالك نفسه فسمح لها بتصديق ما تسمعه وما تراه، ودنا من الشاب وتحسس وجهه براحتيّ يديه، وقال له:
"(سيمبوس)! إنه أنت حقاً! ولكن كيف؟! كيف حدث ذلك؟".
وقبل أن ينبس الشاب بكلمة أمر الملك بأن يؤخذ علي الفور لتحميمه وإلباسه ملابس ملكية بدلاً من تلك الثياب الرثة، وأن يُساق إلي أفضل غرف القصر ويُقدَّم له الطعام.
وبعد يوم حافل ارتمي (سيمبوس) على سريره من الحرير في الغرفة الملكية الخاصة وهو يكاد يطير من السعادة لنجاح خطته، وأخذ يفكر طوال الليل في القصة المحكمة التي حاكها ليرويها للملك حول كيفية انتهاء المطاف بالأمير إلى هذا الحال.
وفي صباح اليوم التالي، حضر الملك بنفسه الي غرفة (سيمبوس)، وجلس الي جواره علي السرير ثم قال في صوت يملأه العطف:
"أنا لا أصدق، ابني البكر من لحمي ودمي ماثل أمام عينيّ، انظر لنفسك كم كبرت! كيف حدث كل هذا؟ كيف افترقت عنا؟".
أجاب (سيمبوس):
"انها مؤامرة يا مولاي، الممرضة والحاضنة تآمرتا معاً ليختطفاني ويبيعاني الي أسرة قروية مُيسًّرة كانت لا تنجب. وقد أخذتا مبلغاَ كبيراً من تلك الأسرة. وكانت الممرضة قد اختلقت قصة أصابتي بالسل حتي يسهل إقناع جلالتك بعد ذلك أنني مت بسبب المرض".
"ولكنني أتذكر وقتها أنك كنت مريضاَ حقاَ، فقد كانت إمارات الإعياء الشديد بادية عليك".
"لقد كان هذا مجرد نوبة برد يا مولاي أو شيئًا شبيهًا، لم يكن مرضًا خبيثًا. ولكن الممرضة انتهزت الفرصة لتشخيص حالتي بالطريقة التي أرادتها، مستغلةَ أن لا أحد غيرها في القصر يفقه في مجال الطب. ولم يصعب عليها بعد ذلك أن تحضر جثة طفل ميت لإحلالها مكاني ودفنها أمام الجميع علي أنها جثتي".
"وكيف عرفت بكل هذا الأمر؟".
"لقد اعترف لي والداي.. أقصد اللذين ربياني.. وهما علي فراش الموت، بعد أن أنهكهما المرض واشتدت بهما الفاقة كعقاب لهما علي ما فعلاه في الماضي. فقررت بعد وفاتهما أن آتي إليك وأخبرك".
"ها أنت متأكد مما تقول؟ إنك تتهم امرأتان عاملتان بالقصر منذ زمن طويل بإتهام خطير، ولو أن ما تقوله صحيح فالموت مآلهما حتماً".
"أنا متأكد يا مولاي، أقصد يا أبي".
"اذاَ لا بد أن أتخذ قراري بشأنهما علي الفور".
قاطعه (سيمبوس) :
"إذا كنت تسمح لي يا مولاي أود أن أعاقبهما بنفسي، فبعد كل تلك السنوات بعيداً عن والديّ الحقيقيين وبعد حرماني من هويتي كأمير، لا شيئ يمكن أن يشفي غليلي سوي أن أشرف علي قضيتهما بنفسي".
"لك هذا. سأترك لك الأمر برمته لتحكم فيه، ولكن عليك أولاً أن تتأكد من صحة قصتك، حتي لا تخطئ وتظلمهما".
غادر الملك الغرفة، وشعر (سيمبوس) ببعض الاطمئنان بعد أن منحه الملك حق التصرف في المرأتان، فقد كان يخشي أن يتحدث معهما الملك فيثبتان له أن (سيمبوس) ما هو إلا محتال وتأتيان للملك بأدلة ضده.
وخوفاً من أن تشي به الحاضنة، أو تعرف بأمره الممرضة فتفضحه، أمر (سيمبوس) علي الفور بإعدام كلتيهما، وقد كان.
وبعد بضعة أسابيع، أقام الملك احتفالاً كبيراً في المملكة كلها، أعلن فيه أن (سيمبوس) سيكون هو الأمير ولي العهد وصاحب المُلك من بعده كونه ابنه البكر، وأن على الجميع أن يخضع له ويدين له بالولاء.
وأخذت انتصارات (سيمبوس) تتوالى وتتابع واحدة تلو الأخرى، وبقدر ما كانت تزداد خطته نجاحاً بقدر ما يمتلئ قلبه هولاً ورعباً من أن يُكشف أمره أو يخسر كل هذا المجد، فانتهز السلطة المخوَّلة إليه كأمير وأمر بإعدام المشعوذة خشيةً أن تكشفه أمام الملك، ثم لم يلبث أيضاً أن أمر بإعدام صانع الوشوم الذي صنع له شكل الوحمة. واستمر في قتل كل من صورت إليه نفسه أنه قد يكشف لعبته.
وبعد سنتين، توفي الملك. وجاء دور الابن البكر ليتسلط أخيراً علي البلاد.
وفي حفل التتويج، تم الاعلان بأن الحاكم الجديد للمملكة هو الملك العظيم المبجل.. (ديبوس)!!
You must be logged in to post a comment.