الفارس الأحدب

الفارس الأحدب

 

المشهد الاول


في احْدى العُصورِ القَديمَة، في قَريةٍ تَقَعُ على أَطرافِ المَدينة يُقالُ لها قَريَةُ الباسِقات، حيثُ تََََََََََََََْملأَُ أَشْجارُ النَّخيلِ أفْنيتِها، و في أَحَدِ أَزِقَّتِها، رَاقَبْتُهُ مِنْ مِنظارِ مَحْجَرِ العَينِ لِفُضولٍ دَاهَمَني فَجأةً، حينَ رَأيتُهُ في جِسْمٍ ضَئيلٍ ضَعيفْ لَم يُنْهِكَهُ تَعَبُ السنين ولَم يَسْتَسْلِمَ لعَثَراتِ الدَّهر. 

إنَّهُ بائِعٌ مُسِنٌ أحْدَبْ، يَتَجولُ في أَحْياءِ القَرْيةِ ساعياً لِرِزقِهِ، و هوَ يَجرُّ عَرَبَةً ثَقيلَةً مَليئَةً بِالنعَمِ لِيَسْتَعْرِضَها لِأَهالي القَرْيَة. 

وَ في كُلِّ صَباحٍ يَأتي باكِراً إلى مـَكانِهِ المُعتاد و هو يَجُرُّ عَرَبَةَ عِشْقِهِ الأبَدي، و كَأنها عَرَبَةً مَلكيةً لها صَوتُ قَرْقَعَةُ العَجَلات و جَلْجَلَةُ الخَيْلِ، و أَجراسٌ مُعَلَّقةٌ بِأعْمِدَتِها تَرُنُّ مُتَناغِمةً كَأجْراسِ الحُلِي، و تَسيرُ بِهَيْبةٍ ووَقارٍ كوَقارِ شَعْرِهِ المُشْتَعَلِ شَيْباً. وعِنْدَ باحَةَ المسْجِدْ، تُحَطُّ رِحالُها ويُفَكُّ لِجامُها لِيَسْتَريحَ فارِسُها، ويَبْدَأَ بِنَقْلِ صَناديقَ الخَيْراتِ مِنَ العَرَبَةِ ويَضَعُها جانِباً بِكُلِّ هِمَّةٍ ونَشاطٍ.

الأحْدَبُ مُنادِيا بصوتٍ مَبْحوح: "أيُّها الناسْ هَلِّموا إلَيْ .. جَلَبْتُ لَكُم ما لَذَّ وطابَ مِنَ الأَطْعِمَةِ الطازَجَةِ وبِأَقَلِّ الأثْمانِ.. هيا تَعالوا.. أَسرِعوا هيا أَقبِلوا."

يَشْتَري الناسُ مِن بِضاعَتِهِ ظَناً مِنْهُمْ أنَّهُ يَسْتَعْطِفَهُم بِحالَتِهِ هذِهِ!! 

ومِنْهُم مَن يَسْخَرَ مِنهُ ومِن بِضاعَتِهِ!

يَقولُ أَحَدُهُم ساخِراً: "احْدودِبَ ظَهْرُكَ أيُّها العَجوزْ وأَصْبَحَ كَسِنامِ البَعيرِ المُتهالِك، مِنَ الأفْضَلِ لَكَ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَكَ في دارِكَ وتَنْتَظِرَ أَجَلَك!! لا فائِدَةَ مِن هذا العَمَلِ الشاقِ .. لَن تَجْنِيَ الكَثيرَ مِنَ المالِ." 

شَحَذَهُ بِبَصَرِهِ الأَحْدَبْ، ولَمْ يَنْبِسَ بِبِنْتِ شِفَّة، ثُمَّ تَجاهَلَهُ كَأنْ لَمْ يَسْمَعَهُ، وأضحى يُكْمِلُ عَمَلَهُ.

أَيادٍ خَفِيَّةٍ تَنْسِجُ خُيوطَ المَكْرِ والخِداع!!

تُرى هَل يَخْرُجُ الأمَلُ مِن عُنُقِ الزُّجاجة؟!!


المشهد الثاني

وفي صُبْحِ يَوْمٍ لَيسَ كَالأَيام وفي ساعَةٍ لَم تَكُن في الحُسْبان، حَيثُ الأَمْطارُ أذابَتْ طينَ الجُدْران و هَدَّمَتْ قصورَ الرِّمال، و أَغْرَقَتْ مَساكِنَ النَّملِ وانهالَتْ على كُل جَحَرٍ في الَمكان. و تَغَلْغَلَتْ قَطَراتُهُ في عَرَبَةِ الأَحْدَبِ راسِمَةً أخاديدَ و وِديان، وجاءَتْ العَواصِفُ مُسْرِعَةً تُسانِدُ زَخَّاتِ المَطَر بِأَصواتٍ رعَديَّةٍ مبُرِقَةً القَريَةِ و السَّاحات.

جاءَ الأَحْدَبُ كَعادَتِهِ و رَكَنَ عَرَبَتِهِ و جَرَّدَ نَفسَهُ مِنَ الأَربِطَةِ و الحِبال، واتَّكَأَ على رَبْوَةٍ خَضْراءَ نَدِيَّةٍ مُنْتَظِراً أَن تُنْهي الطَّبيعَةَ مَهَماتِها و تَهْدَأَ أَحوالُها، حتى أَخَذَتْهُ غَفْوَةَ نُعاسٍ ثَقيلَةٍ إلى عالَمِ الأَحْلامِ و تَحقيقِ الأُمنَيات، و بَعْدَ أَن هَبَّت ريحٌ مُفْعَمَةٌ بِرذاذِ السَّماء ألقَتْها على ثَنايا وَجهِهِ حتى يَرْجِعَ إلى عالَمِ المَشقات، و لمَا عادَ واسْتَيْقَظَ، ظَهَرَ الأَمرُ الجَلَلْ، وحَدَثَ ما لم يُتَوَقَّعَ، ذَهَبَ لِيَتَفَقَّدَ عَرَبَتَه، ولكِن!!

الأَحدَبُ مُنْذَهِلاً صارِخاً: "يا إلهي.. أيْنَ عَرَبَتي!!؟"

و أَخَذَ يَسْأَلُ المارَّة: "يا بُنَي هَل رَأَيْتَ عَرَبَتي!؟"

و يَسْأَلُ آخَر: "يا أَخي هَل تَعْلَمْ مَن أَخَذَ عَرَبَتي!؟"

لَم يَجِدْ الإجابَةَ الشَّافية و عَمَّ الصَّمْتُ وطالَ الانتِظار! فَذَهَبَ بِنفسِهِ يَبْحَثُ عَن عَرَبَتِهِ هُنا وهُناك، والمَطَرُ يَشْتَدُّ بِغَزارة، حَتى ابْتلَّت ثيابُهُ وانقَطَعَتْ نَعْلُهُ وتَشَقَّقت قَدماه، ثُم ما لَبِثَ أَن رَجِعَ إلى مَقَرِهِ مُنهكاً مُجهداً، طَأْطَأَ ِبرَأسِهِ يُفَكِرَ مَلياً .. ثُم تَوَصَّلَ إلى خُطة تَقودَهُ إلى مَكانِ العَرَبَة...

وقال: "عليَّ أَن أَتَّبِعَ أَثَرَ عَجَلاتِ العَرَبَةَ لَعَلها تَقودُني إلى مَكانِها."

 وبِالفِعْلِ تَتَبَّعَ الأحْدَبُ آثارِ عَجَلاتِ عَرَبَتِهِ وسارَ بِاتجاهِها إلى أَن أَوصَلَتهُ إلى مَنزِلِ جارِهِ، و وَجَدَ العَرَبَةَ على غيَر عَهدَها السابِق، مُحَطَّمَةً مُهَشمةً والصناديقَ مُبَعْثَرَةٌ خاويةٌ مِنَ البِضاعَة!!! 

حَمِدَ الله تعالى وشَكَرَهُ، واسْتَرَّ سُروراً كبيراً حينَ رَآها بِالرُّغمِ مِن حالَتِها المُزرِيَة.

فَقَرَّرَ أَن يُغْلِقَ أَبْوابَ الهَزيمَةِ والإنكِسارْ و يَفْتَحَ أَبوابَ العَزيمَةَ و الإنْتِصارْ.

 
المشهد الثالث

ومَعَ بِزوغِ فَجْرَ اليومِ التالي، و بِدايَةَ عَمَلٍ جَديد، تَأَهبَ الأَحْدَبُ مُشَمِّراً عَن ذِراعَيه شاحِذاً هِمَّتَه مُلَمْلِماً عَزيمَتَه مُصِرَّاً عَلى اسْتِكْمالِ مَسيرَتِه.

وبَينما هوَ يَقومُ بإِصلاحِ عَروسِهِ، جاءَهُ سِرْبٌ مِنَ الطُّيورِ البَيْضاء حامِلَةً في مَناقيرِها قَلائِدَ فاخِرَةً ذاتَ أَلْوانٍ زاهيةٍ تَشُعُّ نوراً و بَريقاً يَخْطِفُ الأَبْصار، انْبَهَرَ الأَحْدَبُ مِن جَمالِها الخَلاَّب و سِحْرِها الأَخَّاذْ و هيَ تَتَساقَطُ عَلَيْهِ مِنَ السَّماء، و تَعَلَّقَت كُلُّ واحِدَةٍ مَنها بِأَركانِ العَرَبَة حَتى ازْدانَتْ حُسْناً و تَأَلُّقاً.

و حينَ انْتَهى مِنْ إَصْلاحِ العَرَبَة .. صَفَّفَ الصناديقَ المَمْلوئة بِأَصنافِ النَّعَمِ بَداخِلِها و أَحْكَمَ أَرْبِطَتِها و اسْتَعَدَّ لِرِحْلَةٍ مِلْؤُها التَّفاؤُلُ و الأَمَلْ. شَكَرَ جيرانَهُ الطَّيبونَ عَلى ما قَدَّموهُ لَهُ مِن مُساعَدات، أَخَذَ يَجِرُّ العَرَبَةَ بِخُطُواتٍ ثَابِتة، و كُلَّما يَجُرُّ خُطوَةً إِثرَ خُطوَة، يَخْتَفي وَجْهَهُ و تَرْتَفِعُ حَدَبَةَ ظَهرِهِ مِن شِدَّةِ ثُقْلِ العَرَبَة.

فَراحَ يُنْشِدُ بِصَوتٍ مَبْحُوح:

أنا الفارِسُ المِغوار ذو الحَدَبَة......أَخوضُ المخَاطِرَ بِلا خَوفٌ و لا رَهْبَة

شَديدُ المِراسِ كالحَرَبَة......أَشُدُّ أَجُرُّ زِمامَ العَرَبَة

عِشقي لَهَا لا يُقارَنُ بَعَبْلَة و عَنْتَرَة

و حينَ وَصَلَ إلى باحَةَ المَسْجِد وَجَدَ زَبائنَهُ بِانتِظارِه مُتَشوِّقونَ لَهُ و للشِراءِ مِن بِضاعَتِهِ، و كانَ مِنْ ضِمنِ هؤلاءِ جارُهُ الذي آذاهُ في لُقمَةَ عَيشِهِ، فَعِندما رَأَى الأَحدَبُ واقِفاً مِن جَديدٍ كَجَبَلٍ شامِخٍ لا تَهُزُّهُ رِياحُ الزَّمَنْ ولا تُضْعِفَهُ عَواصِفَ اليَأس، أصابَهُ الذُهول و دنى مِنْه مُعتَذِراً نادِماً عَمَّا فَعَلَه. قَبِلَ الفارِسُ الأَحْدَبُ اعتِذارَه وسامَحَهُ عَمَّا بَدَرَ مِنه، و عَمَّ الفَرَحُ أَرْجاءَ الحَي و أَزاحَتْ البَسْمَة جِدارَ الأَشجانْ و ارْتَسَمَتْ على الثُغورِ نَغَمًا و في العُيونِ سَعادَةَ وفَرَحاً.

فَأَغْلَقْتُ مِنْظارَ مَحْجَرِ العَيْن حِيَنما عَلِمْتُ أَنَّ سَفينَةَ الحَياةِ تَتَقَلَّبُ بِنا، و أَمواجُها تَكْشِفُ مَعادِنَ الأَصالَةِ و الزَّيفْ، و رَسائِلٌ تَأتينا مِن كُل حَدْبٍ و صَوبٍ تُنَبِهُنا و تُنْذِرُنا حتى تَصِلَ بِنا إلى بَرِّ الأِمانْ.


Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن