وفي صُبْحِ يَوْمٍ لَيسَ كَالأَيام وفي ساعَةٍ لَم تَكُن في الحُسْبان، حَيثُ الأَمْطارُ أذابَتْ طينَ الجُدْران و هَدَّمَتْ قصورَ الرِّمال، و أَغْرَقَتْ مَساكِنَ النَّملِ وانهالَتْ على كُل جَحَرٍ في الَمكان. و تَغَلْغَلَتْ قَطَراتُهُ في عَرَبَةِ الأَحْدَبِ راسِمَةً أخاديدَ و وِديان، وجاءَتْ العَواصِفُ مُسْرِعَةً تُسانِدُ زَخَّاتِ المَطَر بِأَصواتٍ رعَديَّةٍ مبُرِقَةً القَريَةِ و السَّاحات.
جاءَ الأَحْدَبُ كَعادَتِهِ و رَكَنَ عَرَبَتِهِ و جَرَّدَ نَفسَهُ مِنَ الأَربِطَةِ و الحِبال، واتَّكَأَ على رَبْوَةٍ خَضْراءَ نَدِيَّةٍ مُنْتَظِراً أَن تُنْهي الطَّبيعَةَ مَهَماتِها و تَهْدَأَ أَحوالُها، حتى أَخَذَتْهُ غَفْوَةَ نُعاسٍ ثَقيلَةٍ إلى عالَمِ الأَحْلامِ و تَحقيقِ الأُمنَيات، و بَعْدَ أَن هَبَّت ريحٌ مُفْعَمَةٌ بِرذاذِ السَّماء ألقَتْها على ثَنايا وَجهِهِ حتى يَرْجِعَ إلى عالَمِ المَشقات، و لمَا عادَ واسْتَيْقَظَ، ظَهَرَ الأَمرُ الجَلَلْ، وحَدَثَ ما لم يُتَوَقَّعَ، ذَهَبَ لِيَتَفَقَّدَ عَرَبَتَه، ولكِن!!
و حينَ وَصَلَ إلى باحَةَ المَسْجِد وَجَدَ زَبائنَهُ بِانتِظارِه مُتَشوِّقونَ لَهُ و للشِراءِ مِن بِضاعَتِهِ، و كانَ مِنْ ضِمنِ هؤلاءِ جارُهُ الذي آذاهُ في لُقمَةَ عَيشِهِ، فَعِندما رَأَى الأَحدَبُ واقِفاً مِن جَديدٍ كَجَبَلٍ شامِخٍ لا تَهُزُّهُ رِياحُ الزَّمَنْ ولا تُضْعِفَهُ عَواصِفَ اليَأس، أصابَهُ الذُهول و دنى مِنْه مُعتَذِراً نادِماً عَمَّا فَعَلَه. قَبِلَ الفارِسُ الأَحْدَبُ اعتِذارَه وسامَحَهُ عَمَّا بَدَرَ مِنه، و عَمَّ الفَرَحُ أَرْجاءَ الحَي و أَزاحَتْ البَسْمَة جِدارَ الأَشجانْ و ارْتَسَمَتْ على الثُغورِ نَغَمًا و في العُيونِ سَعادَةَ وفَرَحاً.
فَأَغْلَقْتُ مِنْظارَ مَحْجَرِ العَيْن حِيَنما عَلِمْتُ أَنَّ سَفينَةَ الحَياةِ تَتَقَلَّبُ بِنا، و أَمواجُها تَكْشِفُ مَعادِنَ الأَصالَةِ و الزَّيفْ، و رَسائِلٌ تَأتينا مِن كُل حَدْبٍ و صَوبٍ تُنَبِهُنا و تُنْذِرُنا حتى تَصِلَ بِنا إلى بَرِّ الأِمانْ.
You must be logged in to post a comment.