الفضلات
كان محمود يراقب عن كثب من نافذته ربع المفتوحة ، أحياناً يهز كأس القهوة في يده التي لسعتها جمرة السيجارة بعد أن إستنفذها شروده في الشجار .
ألقى باللفافة ، و أغلق النافذة ، و عاد و إستلقى ساهم البصر في السقف .
كانت شجارات النسوة هنا امراً معتاداً ، وكانت تسلية محمود الوحيدة هي الإستماع لضروب الشتائم البذيئة من فم الأمهات ، و النظر الى وجوه الأبناء المتحفزة للجنون الفطري ، كانت شجارات كوميدية تفتح الباب للتأويل السوسيولوجي و للمقارنات المدروسة بين الأجيال .
و هكذا ، إنقضت ستة شهور هنا ، جرب نقل فراشة في شتى زوايا الغرفة ، و إنتهى به المطاف عند المكان الذي إختاره في اليوم الأول ، حين وقف يومها بثقة خرساء و قال : لن تطول المدة أكثر من ثلاثة شهور ، بعدها سينقلب الحال .
**
كان شديد الحماس أيام الجامعة ، وجهه لم يكن يثير البنات أما كلامه فبلى ، كان " دون خوان " رث الثياب ، كما أسمته العمّانية التي إنطفأ حنينه إليها فجأة !
مرة قال لها : حين ستعثرين على رجل من معدن أنفس ، إرحلي ! ، أنا من قش ولا أنفع .
**
ما الذي أراده محمود ؟ ..
كان قد ألقى بالعمّانية على قارعة الدرب ، وكان قد نسيها بسهولة مكشوفة ، و حين إلتفت الى الوراء عفواً سقط و رأى فتاة سمراء بحرائق على ملامحها ، أحرقت العمّانية و ماضيه نهائياً ، و شنقت بصره على أسطح البنايات و الشبابيك ، و غنت فضائحه مع طوابير المدارس الصباحية ، مضغته كالعلكة في فم المومس ، ثم رحلت .
تركت على وجهه برازها ، و لا مجال للتكلف هنا ، حين يعاتب نفسه في ليالي وحدته السقيمة لا ينظر الى الأمر الا على أنه خسارة فادحة للوقت و العاطفة ، ولا يعد فتاته السمراء الا مجرمة حرب .
هل حاول الإنتقام ؟
في خياله فقط ، كان نبضه يضطرب ساعة يتخيل إيقافه لها و ضربها على بطنها و رأسها ، و كان يحلم كثيراً بقتلها حرقاً او خنقاً ، لكنه في الغالب كان يحس بضعف مرير أمامها .
**
يُدٓق البابُ بعنف ، يفتحه محمود ليجد شاباً فارع الطول يُخبره بأنه السبّاك ، و بأن صاحب الغرفة أرسله و طلب منه أن يخبر المستأجر في هذه الغرفة أن الأجرة قد إستحقت .
مرة قرأ محمود عن شذوذ الخيال و جموحه ، و قرأ عن الجهاز الهضمي ، و عن مزارع الماريغوانا في المناطق الحارة ، و تخيل كثيراً لو أن الإنسان قادر على أن يتبرز ماضيه ، و يخرج نفايات ذاكرته مع فضلاته العضوية .
سأل محمود السباك : منذ متى تعمل في هذه المهنة ؟
() ستة شهور ، منذ طردت من عملي ، و منذ وجدت نفسي أموت جوعاً . ضحك ضحكة ممدودة أصابة محمود بالغثيان
() و هل أنت متزوج ؟
() أعوذ بالله يا رجل ، هل أنا مجنون ؟
**
حين إنتهى السبّاك من عمله خرج محمود ليشتري علبة سجائر ، و حين خرج من الدكان حاول تذكُر الطريق الى حجرته لكنه فشل في ذلك ، و أحس بوقفته غير مبررة بباب الدكان فقرر أن يمشي دون أن يعرف الى أين .
كان إختلاط صوت المطر على الغرف ذات السطوح المعدنية يمازج جملةً مفردة نسي قائلها : هل انا مجنون ؟!
You must be logged in to post a comment.