تتمة لمقالتنا السابقة الفقر مدرسة النبوغ ج2 التي نذكر فيها طرفاً من قصص المشاهير ممن كابدوا الفقر وعاينوا الحرمان والبؤس، ولم يثنهم ذلك عن بلوغ مجدهم الشخصي وتحقيق مطامحهم العالية ومن هؤلاء :
فتشسر بوفيفاني
نشأ هذا العالم نشأة قاسية في أسرة فقيرة لا يستطيع عائلها النهوض بكفايتها، فرحل والده فشستر إلى فلورنسا يلتمس أبواب الرزق، وكان غلاماً ذكياً، ذا عين فاحصة، فشاهد لأول مرة الفانوس السحري يعرضه صاحبه على المتفرجين، ليروا صور الأشياء كأنها خحقيقة ماثلة أمام عيونهم وقد أخذ يشرح للناس تركيب أجزاء الفانوس،بعد أن حلّه قطعاً قطعاًن ثم ركبه، فتقدم فتشتر إلى الرجل وقد لاحظ ما صنعه منذ بدء الشرح وأكد له أنه يستطيع أن يفك الفانوس ويركبه من جديد، فطلب منه أن يفعل، وسرعان ما أتم العمل على أحسن وجوهه.
فقال له صاحب الفانوس : أنا كبير السن، وقد تعبتُ من التجوال، فهل لك أن تقوم بما أفعل ونتقاسم الربح، فقبل الغلام مسروراً.
وكان من حظه أن يمر به العالم الذائع الصيت جاليليو فليحظ مهارته في العرض، وناقشه في أسرار تركيب الآلة فأجاب ببراعة، وكان جاليليو في حاجة إلى مساعد نابغ، فعرض لعيه أن يلتحق بمعمله العلمي، ويرد الفانوس لصاحبه، فحقق بذلك رغبة غالية كان فتشتر يتمناها، ويعدها في حكم المستحيل، ولم تمض سنوات حتى تجلت مواهب الغلام على أحسن ما كان ينتظر منه أستاذه، وأصبح نابغة في العلوم الهندسية، وألف فيها عدة كتب صادفت حظوة العلماء وتقديرهم، واتصل صداه العلمي بالمجمع الفرنسي فضمه إلى أعضائه، ورعته الدولة، فأغدقت عليه ما يضمن رخاءه المادي، ومات بعد أن جاوز الثمانين.
تشارلي شابلن
"لقد عملت بائع جرائد، وعامل مطبعة، وصانع ألعاب، ونافخ زجاج، وساعياً لدى طبيب. لكن وسط كل هذه المغامرات المهنية، لم يغب عن ناظري يوماً هدفي النهائي وهو أن أصير ممثلاً هزلياً" يقول تشارلي شابلن.
إذا استثنينا وميضاً جميلاً بقي يلمع في ذاكرة شابلن عن طفولته الأولى، سرعان ما ستتبدل الأحوال بصورة درامية ليسقط الطفل وأمه وأخوه سيدني في مهاوي البؤس، ويعيشوا ظروفاً شديدة القسوة أفضت بوالدة تشارلي إلى الجنون، الذي لم تتعاف منه تماماً، وبقيت آثاره تلاحقها حتى وفاتها. ولقد كانت معبرة جداً، بقدر ما هي ممضّة، تلك الكلمات التي تلفظت بها الأم أول مرة رأت فيها ابنها بعد جنونها الثاني : "فقط لو أنك أعطيتني فنجان شاي بعد ظهر ذلك اليوم"!
ولا شك أن هذه المأساة، بكل تشعباتها، تركت بصماتها العميقة في نفس شابلن، كما في طريقة تفكيره، فشخصية المتشرد التي ستكون الشخصية المركزية في معظم أفلامه، والهموم الإنسانية التي سوف تسيطر دائماً على أعماله الفنية، كانت منحكمة إجمالاً بالتجربة الصعبة جداً التي عاشها في طفولته ويفاعته، على الرغم من النجاح الباهر الذي سيحققه لاحقا، والسخاء منقطع النظير الذي ستعامل به معه الحياة.
وبالحفاظ على هذه القناعة السينمائية التي لازمته في كل أعماله (شخصية الصعلوك المتشرد) استطاع أن يكون قاعدة جماهيرية ضخمة وأن يحقق نجاحاً مادياً مُلفتاً، بحيث أنه وقع عقداً مع إحدى شركات السينما الأمريكية بقيمة 670 ألف دولار في العام الواحد، بينما كان راتب الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت لا يتجاوز 40 ألف دولار!!!
You must be logged in to post a comment.