المستغفرة (2)

مشيا في الطريق الترابي الموصل ما بين القرية و بساتين و حقول حليم. كانت دَفَقاتُ الهواء المنعش تُداعب وجهيهِما. و قد بدا أوس سارحاً، فيما شُغِلَت شفتاه باستغفار الله. كانت أمه تسمعه معتزةً بتأثره بها، و تعلمه هذه العبادة منها. و بينما دنت من تكليمه بشيء ما، رأت عربة، يجرها حصانان، تخرج من أحد البساتين، و تتقدم نحوهما. توقفت أم أوس، و قالت دون أن تدري ما إذا كانت تحدث نفسها أم ابنها:

   - لعلَّهُ حليم؟

   لم يُجب أوس بشيء. فقط استمر يرقب اقتراب العربة. هذه الأخيرة، خَفَّت سرعتها تدريجياً، إلى أن توقفت تماماً قِبالتَهُما. و ما كاد رجل يطل من العربة الخلفية، حتى سارعت صاحبتنا لتكليمه:

   - سيد حليم، حمداً لله أني وجدتك بسرعة. لقد جئت في طلبك، طمعاً بالعمل عندك.

   تظاهر حليم بالتفكير، قبل أن يسأل بطريقة توحي بمعرفته الإجابة سلفاً:

   - و أين زوجك؟

   أخفضت المرأة رأسها، فتكفل أوس بالإجابة:

   - أبي رحمه الله.

   همهم حليم، ثم قال:

   - ما اسمك أيتها السيدة؟

   - أم أوس.

   أشار نحو الصغير:

   - أهذا أوس؟

   فأومأت برأسها:

   - نعم.

   نقر حليم أرضية العربة بعكازه نقرات صغيرة:

   - أنتِ تعلمين أنه موسم الحصاد؟

   - لذلك أتيتك. و أرجو ألّا تردني خائبة.

   صمت حليم لبرهة، ثم نظر لأوس، فوجد شفتيه تتحركان بتمتمة خفية. سأل مبتسماً:

   - ماذا تقول أيها الفتى؟

   أجاب أوس واثقاً:

   - إنني استغفر الله. و أسأله أن يغفر لي و لك و لأهل القرية.

   لاشعورياً، قبضت المرأة على عضد ابنها. أما حليم، فقد حدق لبضع ثوان في أوس، قبل أن تباغته نوبة ضحك هائجة، راح على إثرها يطرق أرضية العربة بعكازه تارة، و يمسك بخاصرته تارة أخرى. و في هذه الأثناء، ترقبت المرأة متوجسةً، ما ستسفر عنه نهاية النوبة من نتائج.

   استعاد حليم رباطة جأشه، مُنهياً ضحكه باستنشاق نفس طويل، أبان عن مدى ابتهاجه:

   - أنا موافق على عملك.

   ابتسمت رغماً عنها، من فرط سعادتها. فاستأنف حليم:

   - و كرامةً لأوس، أسمح لكِ بالبدء منذ الآن.

   رفعت حاجبيها:

   - لكن ماذا عن ابني؟

   - بإمكانك إبقائه معك كما تشائين. فهو لن يجد أفضل من هذه المساحات الشاسعة ليلعب فيها... أضاف مبتسماً... و قد يساعدك إن رغب.

   - شكراً للطفك الغامر يا سيد حليم... تنحنحت... لكن ماذا أفعل الآن؟

   اعتدل حليم، متخذاً وضعية الاستعداد لإكمال الطريق:

   - استمري بالسير كما كنتِ. ستجدين النسوة خلف صف الأشجار ذاك. اسألي هناك عن آمال.

   أعطى حليم إشارته، فاستأنف الحوذي طريقه. و من خلفهما المرأة تكرر شكرها، و أوس يلوح بيده.

   خَفَّت خُطاها صوب صف الأشجار، حامدةً الله في سرها على نيلها عملاً سيُغنيها عن سؤال الناس. و لم تكن قد دلفت بين الأشجار بعد، حين تجهم وجهها، و تسرب الحماس من خطواتها. إذ تذكرت بغتة، بأن من طباع حليم، أكل بعضاً من حقوق أجيريه. سرحت قليلاً، ثم غرقت في تكليم نفسها "يا الله! أيعقل أن يقوم حليم بتبخيس أموالي، و هو يعلم أني أُمُّ يتيم؟... لا، لا. ليس من المعقول ذلك. لقد رأيته كيف ينظر لأوس بمحبة و عطف. لقد أشفق فعلاً عليه... لكن صبراً، صبراً. على رسلكِ يا رويدا. إن كان فعلاً معتاداً على أكل حقوق أجيريه، فسيأكل حق أوساً ذات نفسه إن عمل عنده... لربما هي محض افتراءات؟ انظري حولك! كل هذه البساتين و الحقول، و يطمع ببضع دراهم من تعب أجيريه، بدل إكرامهم! يستحيل عليَّ تصديق ذلك. ثمَّ... ثم لِمَ أنتِ خائفة؟ يكفي أنه وافق على عملي. و هذا هو العمل الوحيد، الذي سأجني رزقي من خلاله بالحلال. أما باقي الأعمال، فهي على شاكلة عمل رحاب، و العياذ بالله. لذا اصبري، و لا تهتمي بتاتاً إن قام حليم بسلب مالك، فقليل من النقود، خير من لا شيء... آه، ساعدني يا الله، فأنا ضعيفة. استغفر الله... استغـ...".

   - أمي انظري، النساء!

   عادت للواقع على صوت أوس، الذي أشار متباهياً للنساء، و كأنه اكتشف كنزاً عظيماً. تمعنت في ذلك العدد المهول من النسوة، اللواتي انتشرن في البساتين و الحقول. كانت من بينهن فتاة طويلة القامة، تسير موزعة أوامرها هنا وهناك، فكان واضحاً أنها المسؤولة عنهن. بمجرد ما رأت أوساً و أمه، شرعت بالسير صوبهما. و قبيل خطوات قليلة من بلوغهما، قالت:

   - تفضلي.

   تنحنحت أم أوس متحرجة:

   - هل أنتِ السيدة آمال؟

   ضحكت الفتاة حاجبة فاها بكفها:

   - آمال فقط، بدون سيدة.

   ابتسمتْ:

   - كما تريدين.. لقد أرسلني إليك السيد حليم، قائلاً أن بإمكاني مباشرة العمل.

   عقدت آمال ذراعيها، متخذة هيئة جدية:

   - و لماذا هذا الصغير معك؟

   - إنه ابني. و قد سمح لي السيد حليم بإبقائه معي أثناء العمل.

   ضيقت آمال عينيها:

   - أتدركين العواقب إذا ما كنتِ تكذبين؟

   تدخل أوس:

   - أمي لا تكذب. و بالإشارة، لقد قال السيد حليم أني لن أجد مكاناً أفضل من هذا للعب.

   قطبت آمال حاجبيها:

   - ألن تخافي أن يضيع؟

   أجابت و هي تنظر لابنها بطريقة ذات معنى:

   - إنّه فتى ذكي. و سيبقى تحت ناظريَّ، أليس كذلك؟

   أومأ موافقاً، فيما تنهدت آمال، كما لو كان عندها تحفظ، قبل قولها:

   - أنتِ تتحملين كامل المسؤولية. و الآن، اتبعيني لأُفهمك عملك.

   أفهمتها آمال بأنّها لن تؤدي مهمة واحدة بعينها. فأحياناً ستقطف الثمار. و أحياناً تجلب الماء بالجرار. و قد تضطر أحياناً أخرى لتنظيف الأرض، أو زرعها بالبذور و الشتلات. و أياً ما كانت مهمتها، فقد رأتهن أم أوس أعمالاً يسيرة، و من الممكن تأديتها. و مع هذا، بَقِيَ ذهنها مشتتاً، لقلقها على أوس، رغم حرصها على عدم ملاحظة آمال لذلك. فاستمرت بين الفينة و الأخرى تلتفت لمكان جلوسه. و تغتبط إذ تراه ينقل عينيه فيما حوله ساهماً، و هو يتمتم بشفتيه، فتعلم بأنه قد فضّل الاستغفار على اللعب.

   و ما أن أتقنت هي الأخرى جميع مهام العمل، حتى أصبح الاستغفار رفيقها. فكانت لا تكل عن استغفار الله أثناء قطفها الثمار، أو تعبئة الجرار بالماء، أو تنظيف الأرض، لنثر البذور، و زرع شتلات جديدة. و حينما تأتيها إمرأة، تستفسرها عن سبب عملها هنا، مع أنها إمرأة جميلة، سترحب رحاب سريعاً بعملها عندها، بل و تضيف متبجحة بأنها قد سألت رحاباً عملاً، لكنها رفضت، لأن الرجال سيعزفون عنها لقباحتها، كانت صاحبتنا ترد عليها بالقول بصوت عالٍ "استغفر الله العظيم". فتتشابك ملامح تلك المرأة الفضولية، و تنصرف مخذولة، لا تجرؤ على إعادة السيرة مرة أخرى.

   و على هذا الحال، تكيفت سريعاً مع نمط حياتها الجديد. تخرج مع الشروق، رفقة ابنها، من البيت. و تستمر في عملها لِما قبل المغيب بساعة. و بالرغم من تحقق مخاوفها، عبر قيام حليم بالتبخيس من أجرها، تحت ذرائع واهية، كوجبة الطعام التي يقدمها يومياً لها و لابنها، أو حبات الفاكهة التي يقوم أوس أحياناً بأكلها، بل إنه انتقص يوماً من أجرها قائلاً أن البيع لم يكن جيداً، مما أدى للخسارة، و على الجميع تحمل الخسارة معه!. و بالرغم من كل ذلك، فقد أحست بالبركة في نقودها. فكانت تتدبر مصاريفها و مصاريف ابنها، و يبقى معها فائض. و لم تشعر بهذه البركة في النقود فقط، بل في الوقت أيضاً. ففي ذهابها للعمل، و عودتها منه، أصبحت تتخذ طريقاً مُغايراً للطريق الأساسي المارِ ببيت رحاب. و كانت غايتها من ذلك، هو تجنب ملاقاة تلك الأخيرة. و مع أنَّ الطريق المُغاير كلّفها نصف ساعة إضافية، إلّا أنها شعرت به أقصر و أيسر كثيراً من الطريق المارِ ببيت رحاب. و إضافة للمال و الوقت، أحسّت بالبركة تمتد أيضاً لصحتها. فصحيح أنها كانت تشعر بالتعب في العمل، لكنه كان تعباً لذيذاً، يُشعِرُها بالرضا، لتأديتها عملها بأكمل وجه، و كسب رزقها بما يُرضي الله.

   كانت موقنةً بأنَّ كل هذا اليُسر، لم يتهيأ لها، إلّا بفضل الاستغفار، الذي يُبقيها على اتصال دائم بالله. لكن في ليلة من الليالي، جاء من يُنغّص عليها رضاها و قناعتها.

   في تلك الليلة، كان أوسٌ نائماً. و كانت هي تستعد للنوم. فإذا بالباب يُطرق. داخلها القلق، لعلمها بأنّ لا أحداً لها هنا يزورها.

   - من؟... قالت من خلف الباب، فجاءها الرد ليقض مضجعها:

   - أنا رحاب يا أم أوس.

   قالت صاحبتنا متلعثمة:

   - و ماذا... ماذا تريدين؟

   أجابت رحاب بنبرة واثقة:

   - ألا تفتحين الباب لضيفتك؟ أم أنّ من شيمك إبقاء الضيوف على الباب!

   نظرتْ حيث أوس يغط في النوم، ثم فتحت الباب:

   - تفضلي.

   دلفت رحاب بابتسامة  واسعة. و فيما كانت تنقل بصرها في أرجاء البيت، قالت:

   - أرى بيتك مبتهجاً. إنك تتدبرين أمورك جيداً!

   رمقتها رويدا بنظرة هادئة:

   - الحمد لله.

   هزّت رحاب رأسها، مصدرةً همهمة خافتة. ثم جلست على كرسي يطل على مضجع أوس:

   - لم أركِ منذ آخر مرة. أين غبتِ طيلة هذه الفترة؟

   زفرت نفساً طويلاً، مبديةً ضيقها من هذه الزيارة:

   - و هل هذا تحقيق؟

   قهقهت رحاب بصوت عالٍ، أجْفَلَ أوساً من نومه:

   - إنني فقط قلقة عليكِ. لأنَك غالية جداً على قلبي.

   سارعت صوب أوساً، ممدِّدةً إيَاه على الفراش من جديد. و شرعت تُمسّد شعره، محاولةً إرجاعه للنوم:

   - شكراً يا سيدة رحاب. لكني أرجوكِ أن تتركيني لشأني. فأنا أعمل بفضل الله، و البركة تملأ حياتي. كما أتمنى لكِ التوبةَ عمّا أنتِ فيه، و العودة لله.

   أحسّت رحاب برجفة لِما سمعته. و حاولت الرد، لكنها لم تجد ما يسعفها من الكلمات. فطفقت تنظر لمضيفتها، و الشرر يتطاير من عينيها. ثم قالت محاولةً قدر استطاعتها ضبط نبرتها:

   - إنّكِ لا تقبلين العمل معي فقط، بل تدعونني أيضاً لتركه! و أيُّ عمل ذاك الذي يجعلك ترفضين عرضي؟

   - إنني أعمل في بساتين و حقول حليم. و أكسب رزقي بالحلال.

   انتفضت رحاب من مكانها:

   - أيتها الغبية! ترفضين العمل عندي، لأجل العمل عند حليم، الذي يأكل حقك، و يرهقك بالعمل طيلة النهار؟!

   ظلّت صاحبتنا مشيحةً بناظريها، لا تلقِ بالاً لكلام رحاب. فاقتربت هذه الأخيرة، خافتة صوتها بنبرة مغرية:

   - فكري جيداً. ستجنين الكثير من الأموال. سيكون لكِ بيتاً فخماً فسيحاً. و تضمنين مستقبلاً مريحاً لهذا الصغير المسكين...

   قاطعتها أم أوس، و قد نفد صبرها:

   - أرجو أن تتفضلي بالخروج من بيتي.

   جحظت عيني رحاب:

   - هكذا إذاً؟

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن