بين نافذتين

بين نافذتين..

تطغى في الغرفة رائحة رطوبة عارمة، دخان اشبعت منه الستائر والوسائد ونوم طويل. غرفة معتمة لم تدخلها أشعة الشمس ولم تمر فيها نسمة هواء منذ أمد بعيد، فالباب مغلق بإحكام والستائر مغلقة تماما، مما يخلق جوا ضبابيا مريبا في تلك المساحة الصغيرة؛ فعلى اليسار من مدخل الغرفة يقبع سرير متهالك ذو أغطية بالية رثة، وبجانبه طاولة متوسطة الحجم مليئة بحروق من أعقاب السجائر، التي نقشت اثارها في الطاولة كبثور في وجه شاب مراهق، وعلى بعد خطوتين هناك مكتب صغير وأمامه كرسي، وعلى ظهر هذا المكتب كتب كثيرة تعلوها الغبار وبنت العناكب من حولها بيوتا لها، ولكثرة تلك الكتب ولضيق المكتب وصغر حجمه، وضعت باقي الكتب في كرتونة بحجم طول وعرض المكتب تماما أسفله، ومجلات تعود لعام فائت وأوراق لمحاولات كتابية من نوع ما بعد منتصف الليل والتي تعود أيضا لشهور بعيدة مضت. وإلى جانب ذلك المكتب ثلاجة تصدر صوتا كأنين شخص يتألم، وهو الصوت الوحيد، كأنه يمضي إلى هلاكه إلى جانب كل ذلك السكون في هذا المكان. هذه الغرفة بتلك الروائح وانعدام الضوء، لم تكتفي بذلك بل لم يحدث أي تغيير فيها، في ضوضائها، وكركبتها. الشيء الوحيد الذي كان يحدث حقيقة هو تقلب هذا البائس في سريره يمنة ويسرة، كل ساعتين -على الأقل- فقط لكي لا يتعفن. لم يكن لأحد من الجيران أن يلاحظ أو يشعر بشيء في تلك الغرفة، فهذا الذي بداخلها هو نفسه لا يفهم ما الذي يحدث معه. كان يشعر فقط في رغبة طويلة في النوم، ولا يكترث لأي أمر يحدث خارج تلك الرغبة أو خارج تلك الغرفة. في المقابل تماما من تلك الغرفة، غرفة أخرى في العمارة المقابلة لها، يفصل بينهما شارع فقط. تقف إلى نافذة تلك الغرفة فتاة عشرينية، بيضاء، بطول متوسط وشعر أحمر طويل، وقد انعكست تلك الحمرة على خديها، تقف هناك شاردة الذهن تفكر بمن خلف تلك النافذة، ذلك الكاتب الثلاثيني الذي أصبح حبيس غرفته من بعد ما حدث معه في الصيف الماضي، ذلك الصيف حين قام بنشر كتابه الأول والذي أحدث ضجة في تلك الفترة من قبل الرأي العام، والشارع، وأصبح هو حديث الساعة، في ذلك الكتاب لخص قصة العشرينيات كما لم تقال من قبل، كتب عن ظلم تلك الفترة، ومعاناة الشبان فيها، عن تعرضهم للاستبداد في كل مرحلة، وعن أقل وأكثر ما يواجهونه كل يوم. في بادئ الأمر كان الكتاب محط إعجاب الكثيرين في طريقة طرحه وجرأته في كشف تلك التناقضات التي تختبئ خلف كل مظهر، وخلف كل مسؤول، وصاحب كل منصب. وبطبيعة الحال ولكون هذا الكتاب يشكل خطرا في اشارته لمؤسسات بعينها ذكرت باسم اخر في الكتاب، كان على تلك المؤسسات أن تخفيه عن الوجود وحصل ذلك فعلا، ليس الكتاب وحده الذي اختفى في ليلة وضحاها بل كاتبه أيضا، الذي كانت نتيجة جرأته وقوله الحق غرفة بائسة منفي يتعفن فيها إلى حد الموت. فذلك هو الموت البطيء، موت الروح، الأمل والقوة في الاستمرار؛ فرؤيتك لكل ما افنيت أيامك وشبابك في صنعه يذهب هكذا هباء منثورا، لم يكن بالأمر السهل حقا. يستيقظ في كل صباح ينظر إلى وجه في المراة لا يعرفه، وجه رجل كهل، مسن، كسى الشيب أطراف شعره ومنتصفه. لم يلحظ حتى بأنه أصبح لديه لحية، برزت وترعرعت أسفل ذقنه.  كان الشيء الوحيد الذي يفعله هو قص الشعر عن حاجبيه قبل أن يصل بهم الحال أن يمنعانه من الرؤية، وعندها لن يتمكن من رؤية طريق عودته لسريره، ذلك الذي يلقي فيه نفسه، وينكمش مقربا أعضاء جسده بعضها من بعض، كان يريد أن يشعر ببعض الدفء الذي لم يذق له طعما منذ بداية الشتاء.  كانت الستارة التي بجانب سريره ممزقة وقد أحدث ذلك متسع ضئيل لدخول ضوء بسيط، كان ذلك الخيط الأبيض وسط ذلك الظلام الدامس بمثابة بصيص أمل لتلك الفتاة، التي لم تنفك تقف إلى النافذة لمراقبته، بفستانها ذي اللون الوردي، في غرفتها التي تتوسطها سجادة من الفرو باهظ الثمن، غرفة منظمة، تعبق برائحة طيب وعطر النرجس. تقف لهذه النافذة في كل يوم، في الصباح عند شربها لكوب من الحليب، وعند الظهيرة في وقت إزالة الغبار عن كل جمادات الغرفة، وفي المساء في حين قراءتها لكتاب ما أو حينما تقف لتحتسي كوب من القهوة. تقف وتتساءل: أين يختفي ذلك  الرجل؟ تتساءل بفضول الأنثى، وبإعجابها به. ترى الظلام يسود في تلك الغرفة ليلا ونهار، فتضيء غرفتها طوال الوقت، كأنها تريد للضد عندها أن ينعكس عليه، أن يستيقظ لمرة واحدة فيرى ذلك الضوء، فيتذكر أن هناك ضوء في هذه الحياة. لا يتذكره فحسب، بل ويعي كيف يشعله هناك، كانت تريد أن تخرجه من تلك العتمة، من تلك البؤرة التي ما برح أن دخل فيها ولم يخرج. 

 

 هذا الصباح استيقظ كما كل يوم، بنفس الروتين المشؤوم، أراد إشعال سيجارة لكنه رأى بأن كل تلك السجائر التي قام بشرائها قد نفذت، قرر لحظتها أن يخرج لأقرب محل لشراء السجائر غير مكترث بملابسه المتسخة، ولا برائحته الكريهة. في تلك اللحظة كانت تقف هي إلى النافذة تراقب المارة على الشارع وإذ به يخرج من الباب السفلي للعمارة باتجاه المحل، بقيت تتبعه بنظراتها إلى أن دخل، بقيت مشدوهة لا تنطق بحرف إلى أن خرج، كانت تنظر إليه ولا تفهم ما الذي كانت تشعر به في تلك اللحظة، لكنها كانت تريد له أن يتعافى وأن يعود إنسانا كما كان، كانت متأكدة أن خلف كل ذلك الظلام والانغلاق على النفس هناك شخص يستحق أن يعيش حياة طبيعية، لا نقول مثالية، بل طبيعية على الأقل. لم تكن تفهم السبب في وصوله لذلك المال ولكن كل ما كانت تفهمه أن عليه الخروج من تلك الحالة.  بقيت في ذلك اليوم إلى جانب النافذة، في لحظة تقرأ وفي لحظة تمسح الغبار عن الشباك، وفي أخرى تبدل الماء للورد.. لم تكن تريد أن تغادر النافذة، فرؤيته اليوم بث فيها أملا أكبر بقليل من ذاك الضئيل الذي كان يسكنها قبل رؤيته. وفي كل لحظة تبتعد لبرهة عن تلك النافذة كانت تشعر أنه سيخرج في هذه اللحظة وتفوتها رؤيته، فتعود لتجلس هناك. كان هو النقيض في كل شيء فيها. حتى أنه لم يعلم بوجودها في هذا العالم، ولا يعرف كل ما يحدث لها بسببه، تلك الجارة الفضولية الجميلة التي تتبع كل سكناته وحركاته، وتشعر أنه بات واجبا هي مكلفة فيه، واجب إنقاذه والبقاء إلى جانبه. كانت تتمنى لو تصنع جسرا بين نافذتين تنقل العطر والضوء والدفء إليه، تشعره بمعنى الحياة مرة أخرى، معنى أن يشعر بدفء كوب حليب في يديه، أن يسترجع حاسة الشم فيميز ويفرق بين عطر الصباح من ورود النرجس وعطر المساء من الياسمين، كانت فقط تحلم وتتخيل وضع إسطوانة من الموسيقى يراقصها على انغامها بينما يحضرون العشاء.. كانت ترى بيتا بلا نوافذ بلا ستائر، حيث الهواء الطلق وأشعة الشمس التي تدخل من كل كمان، شروقا وغروبا، يغازلها بكلماته التي قد يكون نسي كيف يصيغها من بعد عهده عن الكتابة، رأت أولادهم أذكياء مثله، وفتيات جميلات مثلها.. رأت كل المستقبل، من فرط حماستها بدأت تكتب له، كانت تريد للمستقبل أن يقترب وأن تراه أخيرا إلى جانبها، كتبت كل ما كانت تشعر به، وكل ما فكرت به وانتظرته منذ شهور مضت، عطرت الرسالة بعطر خاص ووضعتها في غلاف وتأكدت من مظهرها وهل يليق به أم لا، وضعتها نصب عينيها بجانب السرير وكانت تنتظر الصباح بلهفة ولا تعلم بعد كيف امتلكت هذه الشجاعة هكذا فجأة، لكن كل ما كانت تعلمه أنها عليها أن تحاول محاولة جادة بعيدا عن الاكتفتاء فقط بالمراقبة. في الصباح اليوم التالي وفي حدود الساعة السابعة صباحا كانت شوارع المدينة تضج بالصراخ والصحفيين والإعلام وكبار المسؤولين، وركضت هذه المرة إلى النافذة كما كل مرة، لكن الإختلاف كان أن شباك تلك الغرفة قد فتح على مصراعيه، وهناك مجموعة من رجال الشرطة يقومون بنقل جثة رجل قام بالانتحار ليلة أمس في هذه الغرفة المقابلة لغرفتها، نظرات متلاحقة وخائفة، للنافذة التي فتحت لأول مرة، لشارع يضج بأناس لأول مرة يكترثون لأمره -فوحده الموت من يجمع القريب والغريب-، للرسالة على المنضدة التي لم تقرأ ولن تقرأ. ما كان منها إلا أن استندت إلى الكرسي ولم تنبس ببنت شفة، شعرت بشيء غريب في داخلها، لم يكن ليفهم، وبدأ يجول في مخيلتها سؤال واحد، واحد فقط، هل يا ترى لو نزلت سلالم العمارة من قبل شهر عند رؤيتي له للمرة الأولى وتحدثت إليه وأخبرته بكل تساؤلاتي وأفكاري الفضولية وارائي حول كتابه وإعجابي به وبجرأته، هل سيقوم بالانتحار بعدها فعلا؟ 

 

تمت.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن
About Author