ثلوج تموز

ثلوج تموز

وضعنا أكياس الزعتر وسط الملابس فاختلطت رائحة مدينتين في حقيبةٍ واحدة!  مع بعض صابون الغار وقطع المسك وأكياس السكاكر وألبوم صور، تخيلنا مقاسات أحبتنا واخترنا لهم بعض الثياب لم نكن ندري بعد أعمارهم وأطوالهم كانت طيوفهم في المخيلة تطوف بنا شوارع مدينةٍ لم تطأها أقدامنا بعد ، سُمِحَ لكل فردٍ منا إنتقاء عدد محدود من الثياب والحاجيات فإنتقينا أبهى وأجدد مانملك، وجوهنا ....قد نضرت فرحاً والعروق قد إنتعشت في نواصينا وتلألأتْ النواجذُ كالنجوم في صفحة ليلةٍ صافية

ووضع كل واحد منا دميته المفضلة خِلسةً بين الثياب حتى لا توبخنا والدتنا ولا يكشف أحدنا سر أخيه....لكن أمنا كانت تدرك تسللنا نحو حقيبة الأحلام وتلجم كلمات التأنيب بسوط الحنان وتتغاضى، كانت ( روزنامة التقويم ) خصيمتنا ننتزع وريقاتها بعنفٍ على أمل أن تقصر الأيام ببننا وبين السفر ويقترب التلاقي

كان السمر أنيس ليالينا ، عشرات القصص مئات الضحكات ترن فترن جدران الغرفة،ويطرب على وقعها شباكنا المطل على تلال المنى وأراجيح الطفولة ، والشارع الواسع الواجم الغافي إلا نحن فلم يكن يغشانا النعاس إلا سَحَرا، نصلي الفجر ونغفو وأدرينالين السعادة يشاطرنا الغفوات 

ومضت الأيام حتى جاءت رنة الهاتف بالبشرى، وانطلقنا مع تنفس الصباح، لكن..... ماكل أمنيات البراءة يحالفها التوفيق أو ترضى عنها إراداتُ الواقع .... في تلك اللحظة كرهت  الغربة ...ثم أحببتها ، صرخ الجندي بلؤم عودي لايعبر أصحاب الوثائق ، تمنيت لو طالت قامتي دفعة واحدة وصفعته فدموع أمي أغلى من كل جوازات السفر !  ودموع أمي  فوق كل مناصب المحتلين وأغلى من النظر ، ثلاث مرات يصرخ الجندي : عودي ، وتبكي أمي وألتصق بها كل مساء ألملم دمعها وألعن الغربة ، لكن كرم الله أبلغ من كيد البشر

بعد سبعٍ عجاف عدنا نرتب حقيبة المنى والأحلام وفيها رائحة الزعتر المعهودة ، بعد سبع عجاف طفنا شوارع بيروت صبية صغار ملتصقين بجلباب أمي والحبور يكللها ، وقعتُ في غرام باريس الشرق بملح بحرها وثلجٍ في أعالي جبالها يبقى حتى في عز الصيف ، وأغصانها الوارفات ورائحة المعسل والفستق الحلبي الأخضر ، رأيتُ الدنيا في فرحة عيون أمي ، عندها أحببتُ الغربة وأحببتها أكثر لما تسنى لي أن أرى شابين وسيمين لم أكن أراهما إلا في الصور ، خالان كبدرين لما رأونا غنت أهازيج الفرحة في عيونهما وتسابقا يحملان عنا كل شيء ، كل شيء !، وودا لو ينتزعان الأرض من تحتنا !، نمتُ تلك الليلة كأني في الفردوس أوشكت أمسك الغيم بسعادتي...

واقعية- بقلم ريهام الخطيب 💙

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن
About Author