رحلتي في الظلمات الثلاث

رحلتي في الظلمات الثلاث

 

سقطتُ في غياهب أرض مهجورة وهدَة، وأنا لست سوى كرة كانت

تتدحرج بلا توقف، ككرة ثلج تمامًا، غير أني لم أكن أزداد حجمًا أو عظمة

مع تلك الدحرجة، بل على العكس تمامًا، كنت أزداد ضياعًا وتشتتًا كلما

عجزت عن إيقاف تلك الدحرجة العشوائية، هل سأظل تلك الكرة التائهة؟ أم

بالفعل سأنتهي ككرة ثلج عظيمة تحطم الظلام الحالك الذي حجزَت فيه؟

أظن المكان معدّاً لاستقبال أحد ما في غاية الأهمية وأنا سقطتُ هنا عن

طريق الخطأ لا محالة. فهو مفروشٌ بسجاد فاخر منقطع النظير، أهدابه

منتصبة ناعمة لم تطأها قدم من قبل، لا أراها لكنني أشعر بها وهي تتلقّفني

وتدفعني إلى المجهول، حاولت التفكير في وسيلة للتوقف لكنها كانت

تدفعني بقوة تفوق إمكانياتي. تمكّن مني الخوف واستسلمت له وانتظرت

مثواي الأخير.

انتهى ذلك الدفع القسري، عمَّ المكانَ هدوءٌ أشعرني بشيء من الراحة

والطمأنينة، تلاشت مخاوفي فجأة، قررت أن لا أبرح مكاني، أو حتى

إشعار آخر على الأقل. لم يكن هناك حزم للأمتعة ولا وضع لها، فقط قرار

عبثي بالبقاء دون حراك.

مرَّ وقت على إقامتي ولم يطرأ أي جديد، إن كانت نهايتي هنا فعلاً فأنا

أفضِّل أن تسير

 

الأحداث بوتيرة متسارعة أكثر، على أن يستمر مسلسل الرعب المجهول،

والذي لست أبدو بطلاً فيه.

في المسلسلات يموت البطل لكن يبقى ذكره، ويموت بطلاً عزيزاً تُذرَف

لأجله الدموع. أما أنا، لا أظن بدايتي تليق بأي بطل. رحت أفكر بالبطل

الحقيقي هنا، ذلك الضيف المنتظر، من قد يكون؟ ومن الذي أعد المكان

لاستقباله؟ هل أنا جزء من مراسم الاستقبال؟ على أية حال لا يهمني أيًّا كان

ذلك الضيف، فأنا أيضًا ضيف عابر هنا وعليّ التفكير بطريقة للخروج فقط

قررت العودة لتلك الدحرجة، لم تكن خياري الأمثل لكنها حتمًا خياري

الأوحد، ولا يعقل أن أقف مكتوف النتوءين اللذين أرعبني بزوغهما في

بادئ الأمر. ربما ما زلت لا أعرف الكثير عن ماهيتي لكن لا بأس، ما

أعرفه جيداً هو أن لا مجال للاستسلام، فإذا لم يكن من الموت بدٌّ، فمن

العجز أن أموت جبانًا. حاولت دفع نفسي للتدحرج لكنني لم أنجح، فقدتُ

ماهيتي الكروية، أصبحت عاجزاً تمامًا، ربما لم يجدر بي التوقف عن

الدحرجة من البداية، لكن حتى ذلك التوقف لم يكن باختياري. أنا الآن

نموذجٌ لليأس، مثالٌ لا ينبغي الاحتذاء به في الضعف والوحدة، لابد أنني

سأظل هنا مُبعداً، لابد أنّ هذه

 

الظلمة هي مسقط رأسي وقبري في آن واحد، لقد نال مني العجز وأظنني

لن أموت إلا جبانًا.

قررتُ الخلود للنوم، فلطالما كان النوم هبةً إلهيةً لولاها لاجتاح العالم

الجنون كما يقولون، والسهر روضة المشتاقين، فكان يجدر بي النوم قبل أن

أكتشف عالمًا أو حبيبًا أسهر شوقًا له، وهذا الظلام وإن كان مفعمًا

بالغموض والرعب، لكنه نزلٌ مثاليٌّ للنوم والراحة، وهذا ما لا يسعني إلا

الاعتراف به كأفضل ميزة يتمتع بها هذا المكان.

صحوتُ من نومي على صوت كصوت قرع الطبل المنتظم المتتالي،

فزعتُ وانتفضتُ فهاجت من حولي مياه غريبة، أصبت بالذعر وعرفت

أنها النهاية، لكن لم أتوقع أن تكون النهاية غرقًا في ظلمات في بحر لجي،

ولا أن تُعزَفَ ألحان جنازتي على الطبول. من أين أحاطت بي كل تلك

المياه أصلاً؟ تخبطتُ وقاومتُ الغرق بلا جدوى، ولكن مهلاً، كيف عساي

أن أسميه غرقًا وكل ما في الأمر أنني محاط بمياه دافئة تصدر أمواجًا

هادئةً لا تعيق تنفسي على الإطلاق، وليست تزعجني حتى؟ أظنني أبالغ

قليلاً ولا أفكر بإيجابية.

هدأت من روعي قليلاً وعدت لتفقد المكان، لابد أنني أفرطت في النوم،

هناك شيء ما مختلف، هناك تغييرات تعصف في المكان، لم

 

تقتصر تلك التغييرات على المكان فحسب، بل إن الشيء الكثير منها كان قد

طالني أنا أيضًا.

ما هو هذا المكان الذي يتسع لي ويكاد يضيق بي في آنٍ واحد؟ لا شيءَ يدل

على حياة أو يدعو إلى الحياة، الموت حاضر أكاد أشعر به يحوم حولي ولا

أدري ماذا ينتظر. ظلام في ظلام، أنا في زنزانة، أنا سجين. إن كان هذا

سجنًا بالفعل، فلابد من وجود سجناء غيري في الجوار، أو ربما زنازين

أخرى مجاورة، على الأقل هناك سجان ما حتمًا. لكن ما هي تهمتي؟

عدتُ للحركة ولكن بهدوء وتوجُّس هذه المرة، وقعتْ يدي على شيء ساكن

يمثل أمامي، تسلل الرعب إليَّ وابتعدتُ على الفور، هناك من يشاطرني

الإقامة هنا إذن، لمَ لمْ يحدثني من قبل؟ هل أقتربُ نحوه ثانية؟ ماذا لو كان

هذا هو سجاني؟ أخشى إن أيقظتٌهُ أن يستشيط غضبًا وتنهال علي سياطه. لا

يعقل أن أترك مخاوفي تسيطر على الموقف، قد تكون هذه فرصتي الأخيرة

للنجاة، حتى وإن كان سجاني فلابد من مواجهته، فأنا صاحب الحق،

وصاحب الحق لا يخاف. أخذتُ نفسًا عميقًا وقربتُ يدي من ذلك الشيء،

كان ساكنًا تمامًا، حرّكْته عسى أن يستجيب، لكنه لم يبادل

 

ذلك بأية حركة أو إشارة. لابد أنه سجين لاقى حتفه هنا وصار نسيًا منسيًّا،

أصبت بالذعر، كيف كانت نهايته؟

هل نهشَته الغربة حتى الموت؟ ما الذي مر به؟ وما الذي عاشه وأحس به

في غربته؟ لم يحظَ بأبسط حقوقه، لم تُقَمْ له جنازة ولا مراسم دفن ولم يبكِ

عليه محبوه، تكورت على نفسي في انتظار مصيري الذي بات جليًّا.

لابد أنه سعيد، ذلك السجان، لابد أنه يتلذذ بمعاناتي وينتظر نهايتي، لكن ما

عشته حتى الآن كفيل أن أعلن ثورتي، أزفت الآزفة، سأقود ثورة ضد

سجاني، أنا وحيد نعم، لكن الحق سلاحي، وعتمات السجن لن توهن

عزمي. أنا لن أرضى بدور في هذه القصة البائسة أقل من دور البطولة،

حتى وإن كان الموت هو نهايتي، سأموت بكرامة وعزة. وربما أجد طريقة

أتواصل من خلالها مع رفاقي في السجن لاحقًا، وعندها لن أبقى وحيداً.

عادةً، تطالب ثورات الشعوب بالعيش الكريم، أظن ثورتي ستنتصر لو

حظيت بالموت الكريم على الأقل، أن أموت حراً، لا سجينًا.

لم يعد الظلام حالكًا تمامًا، باتت الرؤية إلى حدٍّ ما أوضح من ذي قبل،

ركزت النظر قليلاً، وما ظننته جثة هامدة لم يكن سوى حبلاً يتدلى أمامي،

لم

 

أستغربْ وجوده، في الزنزانة لابد من وجود حبل مشنقة، لم تعد بوادر

النهاية تؤثر بي، أشعر أنني أموت باطمئنان، أشعر أن الموت صار

يخشاني وربما هذا سبب تأخره عن الحضور، لقد عرفته معرفةً أتعبَته.

فكرت قليلاً، الأسير يمضي أيامه جائعًا مقيداً محرومًا من النوم والراحة،

معصوب العينين ربما، مشبوحًا ومجلوداً. زنزانته بالكاد تتسع له واقفًا،

جدرانها ملطخة بالعبارات البائسة والخطوط العمودية المتوازية المقطوعة

بخط أفقي في وسطها، وفي ذلك عدٌّ تنازلي إلى المالانهاية ربما.

أمعنتُ النظر في أرجاء المكان، جدران لا هي من رخام ولا من جرانيت

بل أفخم، أرضية مفروشة بسجاد ليس تركيًّا بل أجمل، لم أشكُ يومًا جوعًا

أو ظمأ، أنام متى شئت وكيفما شئت، لست مقيَّدَ اليدين أو القدمين، أتحرك

بكل الاتجاهات ولم يضقْ بي المكان يومًا، بل اتسع لهلعي وهدوئي، لحزني

وفرحي، المكان هادئ رغم بعض الضجيج الذي كان يصلني بين الحين

والآخر، حتى ذلك الضجيج كان ضجيجًا مؤنسًا يهوِّن علي أجواء الغربة

والوحشة.

هناك جانب مشرق جلي في الموقف رغم العتمة التي أعيشها، أنا لا أمكث

في زنزانة إذن، يستحيل أن أكون سجينًا هنا، الدفء الذي يلفُّ المكان

يستحيل أن يتوفر في حجرات السجون،

 

حتى ذلك الحبل الذي كنت أحسبه حبل مشنقتي، هناك شيء ما يخبرني أنه

سيكون حبل نجاتي. كل ما مررت به ورأيت فيه الموت والنهاية، سيثبت لي

الوقت أنه كان في الحقيقة يحمل كل معاني الحياة.

الصوت العذب الذي كنت أميزه من بين الضجيج كله، وإن كنت لا أفهم كل

ما يقوله إلا أنه كان قريبًا جداً من سمعي الضعيف، ولا يعقل أن يمتلك

سجان بحة كبحة ذلك الصوت.

لا شك أنه فاخر ومقرمَد من الخارج وبعدة طوابق، ولابد أن هذا الهدوء

السائد هو أحد مزايا المكان التي أهّلَتْه للحصول على النجوم الخمس التي

منحته إياها بنفسي. هنا مملكتي، هنا ضحكت بلا صوت، صرخت بلا

منجد، بكيت بلا دمع، هنا بدأت، ولا مانع لدي أن أنتهي هنا أيضًا.

في البداية، نعم، وجدت صعوبة في قضاء وقت فراغي، كنت أنا والملل

فقط في تلك العزلة.

أيقنت أن هذا الدفء ينبع من رفيقٍ يعلم بشأني ويهمه أمري، حتى أنني

وجدت طرقًا للتواصل معه، كنت أحاول إطلاعه على كل المستجدات لأنني

كنت على يقينٍ أنها تبث الفرح في نفسه.

أذكر اليوم الذي ظهرت لي فيه مجسات عرفت فيما بعد أنها أصابعي،

وعلى رفيقي صاحب

 

النزل أن يعلم بشأنها، فدغدغته بها وسمعته يخبر من حوله بأنه يشعر بها،

رسالاتي كانت تصله، وجهودي لا تضيع هباءً.

كان كل شيء مسالمًا ووديعًا إلى أن ظهر صوت جديد، كان صاحب النزل

يناديه: "دكتور".

ذلك "الدكتور" كان يتظاهر بمعرفة كل شيء، ويصف كل تحركاتي

بأسلوب ممل لا بلاغةَ فيه.

أي نوع من الفضول يملكه ذلك "الدكتور" غضبت حينها من رفيقي

صاحب النزل لسماحه بالتعدي على خصوصيتي، وتسلل إليّ الشك بأن من

حسبته رفيقًا كان متواطئًا مع ذلك الفضولي الذي لا أثق به قيد أنملة.

مالي أحنُّ لمن لم ألقَهُم أبداً؟! بعد أن فكرت مليًّا، وأيقنتُ أن هناك من ينتظر

خروجي من النزل، قررت الخروج.

هممت بالخروج خلسةً، ازداد الضجيج من حولي، أصابني الرعب وعدتُ

أدراجي وأعدتُ التفكير في قراري. لابد أن "الدكتور" الفضولي أخبرهم

عن نيتي بالخروج، فهو فاضح الأسرار الوحيد الذي عرفته حتى ذلك

الحين، ولا أعلم من عينه ناطقًا رسميًّا باسمي.

في اليوم التالي، استيقظتُ بشكل مختلف، كانت هناك بقعة ضوء مسلطة

على عيني، المكان بدا ضيقًا، يبدو أن مخاوفي القديمة من أن يكون هذا

قبري بدأت تتحقق فعلاً، لأول مرة أشعر أن التقاط أنفاسي صعب وعسير.

 

أيجدر بي اللحاق بذلك الضوء؟ هل هو ذلك الضوء الذي في آخر النفق؟ أم

أنه ذلك الضوء الذي سألاقي حتفي عنده إن تبعته؟ لم تستغرق حيرتي وقتًا

طويلاً، عدتُ إلى اللاخيار، أنا أُدْفع نحو المجهول من جديد، شيء ما

يدفعني نحو ذلك الضوء، أمسكت ذلك الحبل، ضاقت أنفاسي أكثر فأكثر،

نحو أي كارثة أتجه؟ ما هذا الكابوس؟ ضاقت عليَّ مملكتي –أو ما ظننته

يومًا مملكتي- بما رحبت، كيف عساها تكون مملكتي وها أنا أطرد منها؟

أُهجَّر هجرةً قسريّةً ولا ناصرَ لي يطالب بحقي في العودة.

اشتدَّ عليَّ الخناق، يا ليتني بقيت نسيًا منسيّاً. سمعتُ صوته، عدوّي، أريد

أن أراه، أعرف صوته وما يحمله من علائم شرٍّ جيداً، إنه هو، "الدكتور"،

رفعت عيني لأضعهما في عينيه، رجلاً لرجل هذه المرة، لسان حالي

يهجوه: يبليك الله بما بلاني. رأيته يحدق بي وقد أطبق شفتيه بإحكام تحت

شاربه الرمادي الكث، التقط رأسي وبدأ يسحبني بقوة، تكالبتْ علي القوى،

قوة تدفعني إلى الخارج، وذاك اللئيم يسحبني دونما رحمة. إن كان لابد من

وجود سجان فهو سجاني لا محالة، أظن حياتي بالسجن قد بدأت الآن، ها

أنا تحت التعذيب، سحبني بأكملي من خارج أرضي، حملني قاصداً شبْحي

 

وإهانتي، وددت البكاء لكنني امتنعت عنه، صفعني مرة، ثم أعاد الكرة فلم

أحتمل، نعم بكيت، بكيت كرامتي، بكيت أرضي التي خسرت. لم ينتهِ

مسلسل التعذيب بعد، أمسكَ حبل نجاتي وقطعه بدمٍ باردٍ ، قطع حبل

وصالي برفيقي.

تنقلت بين أيديهم بطريقة أشبه بمراسمَ تشييعٍ لجثماني. في المحطة الأخيرة،

التقطتني ذراعان فيهما شيء مختلف، حملني صاحبهما برفق وقرّبني من

صدره ليعود صوت الطبول ذلك من جديد، ذهلتُ حين أدركتُ أن الطبول

تلك كانت نبضات قلب تَعزف كل ألحان الحياة، لم تكن تقرع في جنازة ولا

في حفل تأبين كما اعتقدت. توقفت عن البكاء، بل إنني فقدت الرغبة تمامًا

به.

عاد ذلك الدفء الذي ظننت أنني خسرته، هنا مملكتي، هنا موطني

وملاذي، علمت من البداية أن رفيقي مختلف عن البقية، تأمّلت عينيه، كانتا

بما فيهما من لمعان أشبه بقصائد العشق، أكثر من مجرد عينين، كانتا

قمرين. اقترب مني رفيقي أكثر وقبلَني، هنا أحسست أنني ظفرت بالنصر،

ها هي ثورتي التي كانت تنادي بالكرامة تؤتي أكلَها.

يقطع صفو لقائنا الأول المنتظر صوت غريب: بدنا نسميه "عزيز". ابتسم

رفيقي ونظر نحوي قائلاً: أهلاً بالعزيز.

لم يعد أي شيء يفزعني طالما أنا هنا "عزيز" في موطني.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن
About Author