مر عام وأنا أعمل في معمل تحاليل قريب من منزلي، واستقرت أموري نوعا ما، فانشغلت بالعمل عن انتظار كلمات حب لم ولن أسمعها، انشغلت عن نظرة حب من زوجي محرومة منها، انشغلت عن عناق احتجت إليه في أوقات جفائي ليملأ قلبي بالطاقة لتحمل المزيد، انشغلت عن همومي وأحزاني التي لا سبيل لحلها، وكأن العمل ذلك المسكن للآلام، يظل المرض موجود ولكن دون الشعور بآلامه.
حتى ذلك اليوم، في صباح يوم باكر ذهبت إلى المعمل ووجدت المدير يخبرنا أن المعمل يحتاج لصيانة وسنذهب للعمل في معمل أحد أصدقائي بشكل مؤقت، ذهبت أنا وزملائي وما إن دخلت حتى أشممت رائحة عطر خفق لها قلبي، نعم إنها رائحة عطره، نظرت حولي في كل اتجاه وكأني أم تبحث عن طفلها الغائب، ولم أجده قط، فحزنت أني لم أجده ولكن اقترب مني أحد أصحاب المعمل الجديد ليخبرني أين سنعمل، وكلما اقترب الرائحة تقترب والعطر يذيب قلبي اشتياقا، عودت إلى المنزل سعيدة ومشرقة واشتريت الزهور وملأت بها المنزل، وانتظرت أن أذهب اليوم التالي لأشتم تلك الرائحة التي تشعرني بالسعادة.
ذهبت في اليوم التالي ولم أستطع منع نفسي من سؤال صاحب ذلك العطر عن اسمه بحجة أنني سأهدي زوجي هذا العطر وبالفعل اشتريته، أهديته لزوجي لربما يخفق قلبي له إذا وضع هذا العطر، ولكنه بعد أن شكرني كثيرا أخبرني أنها ليست من ذوقه الخاص، حزنت كثيرا ولاسيما حينما عدت لمكان عملي السابق، ولم أعد أشم هذا العطر الذي تبقى لي من أطلال حبي القديم.
لم استطع أعاود التأقلم على الوضع، لم يعد المسكن يخفي ويسكن آلامي، عادت النار لتشعل قلبي مجددا، فكرت كثيرا ماذا أفعل فوجدت نفسي أطلب من زوجي الانفصال، تعجب زوجي وظنني أمازحه ولكن سرعان ما أفاق من بكائي واصراري لتركه، فسألني وما السبب، أجبته أنه بدون سبب فقط لا أشعر بالراحة وأنا معه، حاول أن يتفهمني ويوعدني بأنه سيصلح من نفسه ولكن بلا جدوى، فأخبرني أني منذ أيام كنت مشرقة وسعيدة واهتم بالمنزل وبه أكثر من ذي قبل ماذا حدث لهذا التغيير، فأخبرته أن لا يسألني عن أشياء ليس لها إجابة ولكن لن تغير شيء من هذا القرار.
انفصلت عنه وعدت منزلي وغضبت مني أمي كثيرا،
- وقالت: ظننت أنكي ستكونين أفضل من أخوتك ولكن الحقيقة كانت عكس ذلك تماما، بماذا أخطأت هذه المرة.
- قلت لها: لقد حاولت أن أحقق آمالك في المثالية، والآن انظري ماذا حدث، لا وجود للمثالية تلك الكلمة الغبية التي حرمتني من أن أعيش مراحل عمري كغيري، المثالية وهم في أذهان البشر وفي الحقيقة ما هي إلا طريقة لإفساد حياتك وإفساد سعادتك.
- قالت لي بصوت مبحوح: لقد أردت أن تكوني الأفضل في كل شيء.
- قلت لها بنفس هدوء نبرة صوتها: ليس المهم أن أكون الأفضل في كل شيء، ولكن المهم أن أجد سعادتي في أي شيء.
- ظلت تحدث نفسها بأنها لم تفلح في تحقيق الراحة والسعادة لأولادها، بماذا أخطأت ، بماذا أخطأت، حتى أني ظننت أنها ستفقد عقلها، فهي في الأربعة والستين من عمرها وأصابها من الشيب ما أصابها، فقررت أن أحاول الهدوء واحاول ارضائها وتهدئتها.
وفي اليوم التالي وجدت أختي دعاء تتصل بي كثيرا، أدركت أنها علمت بشأن انفصالي من زوجي، ورغم فارق السن بيننا إلا أنها الأقرب لي في أخوتي، كما أن زوجها صديق زوجي أقصد طليقي فهو لم يعد زوجي بعد، أجبت اتصالها،
- دعاء: ماذا هناك يا رضا وماذا حدث؟
- أنا: لم يحدث شيء فقط وجدت نفسي غير سعيدة في هذه الزيجة.
- دعاء: ماذا تقولين؟ هل أنت صغيرة لهذا الكلام؟
- أنا: لن تفهميني يا دعاء لذلك لا تهتمي، سأذهب لارتاح قليلا.
- دعاء: حسنا يا أختي سآتي إليكم هذا المساء بعد الانتهاء من عملي
بعد أن جاءت دعاء وقد اتفقت مع زوجها المبيت معي هذه الليلة لفهم الأمر،
- أريد أن تتحدثي معي بكل صراحة، ماذا في قلبك؟
- باختصار يا عزيزتي وأتوقع إنكِ ستفهمينني، أنا أبحث عن الحب الذي يشعرني بالسعادة التي حُرمت منها.
- : هل خلال سنوات زواجكم لم تشعري بالحب له؟
- لا، ابدا ولا مرة شعرت بنظرة حب أو عناق شوق أو خفق قلبي له قط
- هل أعطيته فرصة لتحبيه؟
- في الحقيقة هو من لم يعطيني فرصة لأحبه، هو جاف في المشاعر لم أشعر معه بجمالي وثقتي في نفسي، فأنا في نظره كأي امرأة لا أشعر بالتميز معه، انطفأت يا أختي أتفهمينني انطفأت.
- اهدأي قليلا، لا بأس أن تتركيه ولكن أعطي لنفسك فرصة لتتأكدي هل فعلا أنت ترغبين في الانفصال عنه أم أنك تفتقديه وستعطيه فرصة مجددا للتفاهم.
- حسنا يا أختي سأخلد للنوم الآن وحاولي أن تتحدثي مع أمي حتى تهدأ، أخشى عليها الصدمة ولكن لا أستطيع فعل شيء
- ارتاحي ونامي ولا تقلقي بشأن أمي فسأتحدث إليها وأحاول توضيح الأمر لها.
ذهبت دعاء وتحدثت لأمي ولا أعلم كيف كان نهاية الحوار، ذهبت لأمي أسألها:
- هل أصبحت بخير يا أمي؟
- نعم، لا تقلقي بشأني
انتظرت أن تعود دعاء منزلها وعملها وتحدثت مع أمي،
- أمي، رجاءً يا أمي تحدثي إلي، أود أن أتجاوز محنتي معك ولا تتركيني
- نزلت الدموع من عينيها وعانقتني عناق مليء بالدفء والحب، وكأن روحي ردُت إلي وقالت: لقد أخبرتني دعاء بماذا أخطأت ولكن لم يعُد في العمر بقية لأُصلح ما أفسدته.
- تعجبت وسألتها ماذا أخبرتك أختي؟
- قالت لي شيء لم أتوقعه: أخبرتني دعاء أني اعتمدت على عقلي والبحث عن النجاح في كل شيء لأتجنب ابتلاءات القدر ونسيت أن الله هو رب الأقدار وهو وحده من ينجينا من الابتلاءات وليست المثالية، كان يجب أن أترك لكم اختيار تجاربكم وخوضها بمفردكم وأن تتعلموا وحدكم منها وفي نفس الوقت أنصحكم إذا ابتعدنا عن الطريق المستقيم، كان يجب أن أتركم في معية الله وأدخل في قلبكم تقوى الله، وهذه هي الطريقة الوحيدة لحمايتكم من الابتلاءات، أن لا أحاول منعها ولكن اربي فيكم الوسيلة لتتخطوها بسلام.
- ولكن يا أمي أنت علمتينا الصلاة والصيام ولم تقصري في ادخال حب الله في قلوبنا.
- لا بل أني زرعت حب الله في قوبكم دون أن أروي زرعتي، لم أجعل قربكم من الله أهم من الحصول على أعلى الدرجات، ظننت أن بنجاحكم في الدنيا نجاة ولكن لا نجاة سوى بتقوى الله، كان يجب أن اترك لك مساحة الخطأ واملأ قلبك بتقوى الله وحينها إذا سقطت ينجك الله.
تركت أمي وفي قلبي غُصة تؤلمني ولا أعرف لماذا، ولكن لم أفكر كثيرا بكلام أمي، فأنا ما زلت أريد البحث عن الحب الذي أفتقده، ولكن ذهبت إلى العمل كي أجد منفذ من التفكير.
رواية عطر من الماضي - الفصل الثالث والأخير من هنا
You must be logged in to post a comment.