رواية عطر من الماضي

استيقظت من نومي حزينة بائسة أنظر للأشياء من حولي وكأنها ليست جماد، تريد إخباري بأن ابتسم وأن أبحث عن إسعادي، تريد إخباري بأني أحتضر وأنا على قيد الحياة، أتنفس شهيق وزفير وكأني ألفظ أخر أنفاسي، أشعر أنني إن لم أسمع لصراخ يدُب في أعماقي ونار تحرق قلبي أنني سأُلقي حتفي لا محالة.

أنا أٌدعى رضا أبلغ من عمري الثلاثة والعشرين، متناسقة القوام وبشرتي بيضاء وشعري ناعم ولونه أسود ولون عيوني بني فاتح، كم كرهت اسمي كثيرا رغم أنه جميل ومعناه أجمل المعاني ولكن أشعر أنه اسم مذكر، ورغم أن لكل شخص نصيب من اسمه إلا أنني أشعر وأنا في هذا العمر أني لست راضية تماما عن حالي، أنا متزوجة من رجل به كل ما تتمناه أي فتاه، فهو رجل مثالي في كل شيء، اسمه رامي ويبلغ من العمر الثامنة والعشرين، هو موظف في أحد شركات الهندسة المعمارية، تزوجنا منذ عامين ولم ننجب حتى الآن، ولم أكترث أو أهتم بذلك وكلما أراد زوجي أن نذهب للطبيب أتردد كثيرا وأخبره أن ننتظر حتى يشاء الله وأن نمرح ونستمتع معا، ولكن في حقيقة الأمر أني كنت لا أريد أطفال في هذا الوقت وأنا لست مرتاحة مع زوجي.

أمي اختارت اسمي لأنها قد أنجبت ستة أطفال وكنت أنا السابعة وقد أخبرها الطبيب أن الأنجاب مرة أخرى خطر عليها وأن تكتفي بما لديها من أطفال وتشعر بالرضا ، ومن هنا جاء اسمي رضا، انجبتني أمي وهي في عمر الأربعين، كنت الابنة الصغرى لوالدي والفارق بيني وبين أختي التي تسبقني خمسة عشر عاما، ولأن الفارق كبير بيني وبين أخواتي فلم أشعر بهم أو أشعر أن لي أخوات، أمي كانت تحبني كثيرا وكانت تعاملني وكأني ابنتها الوحيدة وكأنها لم تنجب غيري، كانت تستمع لكلامي الذي ليس له معنى وكأنها قصة مهمة وجاديه وتقترح عليا حلول لهذا الهراء، تعلقت بها كثيرا وكنت اتأثر بها في كل شيء وهي أيضا كانت تحبني حب جعلها تريدني المثالية في كل شيء ولا أخطئ ابدا.

وأنا في عمر الخامسة كان أخي الكبير عامر متزوج من زوجته نوال ولديهم مولود صغير يبلغ سبعة أشهر، وأخواتي الثلاثة رباب وهبه وفردوس قد تزوجوا ولديهم أطفال أكبرهم بعمر الثلاث سنوات وكنت ألعب وأمرح معهم، وأخي يوسف قد سافر إلى أحد البلاد العربية للبحث عن عمل يجد فيه نفسه فهو لم يفلح في التعليم ولم يرد أن يعمل مع أبي مثل أخي عامر، فقرر الهجرة، وبعد مرور ثلاثة أعوام أرسل إلينا صورة لزوجته وأنه سيقيم هناك وسيرسل إلينا من حين لأخر رسائل بأخباره وحاله، أبي كان صاحب مصنع أحذية وكان أخي عامر يعمل معه، وكان أبي يقضي معظم يومه في عمله، وأختي دعاء كانت تعمل بعد أن تخرجت من الجامعة، ولكن تعود من العمل تذهب لدورات للتعليم اللغات الإنجليزية والصينية لتطوير مهارتها وتحسين وظيفتها، فهي كانت تعمل مراسلة وتود أن تترقى لمذيعة مشهورة، فكانت أمي تؤنس وحدتها بي وكنت أنا أيضا أؤنس وحدتي بها.

كان زوجي يحاول أن يتقرب مني ويذهب معي للتسوق وإذا تطلعت على شيء بشدة يشتريه ليه في أقرب وقت ودون أن أطلبه، يساعدني في الأعمال المنزلية، ورغم كل هذا لم يخبرني مرة واحدة كم أنا جميلة، كان قليل الحديث ولا يصغى إلي حديثي مهما كان هاما، عكس ما ترعرعت عليه من صغري، تزوجنا زواج تقليدي وكان من طرف أحد أقاربنا، لم أشعر بحبه يوما رغم أن أفعاله جميعها لا يفعلها غير محب، ولكن الكلام له سحره وتأثيره أكثر حتى من الفعل، شعرت بضيق وأني أختنق، لا أستطيع الاستمرار في هذا الزواج الذي يبدو كأنه مثاليا، حاولت الانشغال بالعمل فقد تخرجت من كلية العلوم، وبالفعل ذهبت للعمل حتى لا أدع الفراغ يسيطر علي ويجعلني أفكر بأمور لا بديل عنها.

لقد أخبرتني أمي وأنا في سن البلوغ أن الحب يأتي بعد الزواج، وأن قبل الزواج ليس هناك حب حقيقي، فبدون مسئولية زواج يصبح الحب عبثا لا أكثر، ولأني أتأثر بأمي كثيرا كنت استمع لها دون نقاش وانفذ ما تقول بإمعان واقتناع، كانت أمي تريد أن تتجنب أخطاء أخوتي، كانت تعلمني الرضا بنصيبي ولا أطمع بشيء ليس من حقي، حتى لا أكون أنانية وطماعة مثل أخي الأكبر عامر الذي يطمع أن يستولي على إدارة مصنع أبي وان يتحكم بكل شيء، وكانت تهتم بتعليمي ودراستي حتى لا أكون مثل أخوتي الثلاثة رباب وهبه وفردوس اللاتي تزوجن في نفس العام تقريبا ولكن كانوا يعانون مع أزواجهن وأهل أزواجهن بسبب أنهم لم يكملوا تعليمهن، وكانت تعلمني حب بلدي وأهلي حتى لا أفكر في الغربة مثل أخي يوسف، وكانت تخشى علي من الحب حتى لا يحدث لي مثل أختي دعاء، فقد تأخرت أختي في الزواج وتزوجت وهي في عمر الخامسة والثلاثون بسبب أنها عاشت قصة حب مع زميلها بالجامعة، وكانت شديدة التعلق به ولكن عندما تخرجوا من الجامعة تركها لأجل مصلحته وتزوج ابنة رئيس التحرير حتى ينجح سريعا، فتحطم قلبها كثيرا وكرهت الزواج والتفتت لعملها وأن تنجح فيه، حتى أصبحت مذيعة ولها برنامج مشهور، وتزوجت من مقدم البرنامج حاتم الذي كان يبلغ من العمر السادسة والأربعين وكان مطلق، فحزنت أمي لهذه الزيجة وخافت علي من الحب الذي تسبب في كل هذا.

خوف أمي أن أكرر أخطاء أخوتي جعلها تخيفيني من الحب، وكانت تشجعني على الاهتمام بدراستي وتعليمي، دخلت الجامعة وأنا أحلم بأن أجد الحب، ولكن أتذكر كلمات أمي فأخاف وأقاوم هذا الإحساس، حتى أنني تخليت عن حبي، فقد أحببت زميل في الجامعة اسمه محمود وكنت أنظر إليه من بعيد، كان شاب جذاب رغم افتقاره للوسامة ولكن شخصيته المرحة والقوية جعلته الأكثر جاذبية، كنت حينما اراه يخفق قلبي ولا أستطيع التحكم في تعابير وجهي، كنت ابتسم ابتسامة تنير وجهي ولا أستطيع اخفاءها، استطيع تميز صوته من ألف صوت دون أن اراه، حينما أسمع صوته أو أشم رائحة عطره يخفق قلبي وترتعش يداي ويحمر وجنتاي وكأنني أطير في السماء بأجنحة، إذا غاب يوما أشعر بوحدة امرأة ستينية ولا أستطيع ابتلاع الطعام ولا التركيز في الجامعة وأظل أفكر لماذا لم يأتي وعند عودتي المنزل أظل شاردة الفكر ولا أريد التحدث لأحد وشديدة الغضب من لا شيء، أذهب غرفتي وأبحث عن حسابه الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي وأراقبه، ورغم أنه لم يكن من أصدقائي ولكن استطيع مراقبة تعليقاته لأصدقائنا المشتركين حتى أجد ما يطمئنني عنه، أنتظر اليوم التالي بفارغ الصبر لرؤيته مجددا وارتوائي بالنظر إلى وجهه، حينما أتطلع إليه من بعيد أجده يمازح الفتيات ويفعل كل الأشياء التي أكرهها ورغم كل هذا لا أستطيع ان أمنع قلبي من حبه، أعلم جيدا أنه غير مناسب لي على الإطلاق، وأحاول أن أكف عن حبه ولكن انطفاء روحي يسبقني لمجرد التفكير في التخلي عن حبه.

مرت أربع أعوام الدراسة ولم أتحدث إليه سوى مرات معدودة، كنت أشعر بأنه يُبادلني نفس الشعور فكانت نظرته لي مختلفة وكان نبرة صوته مختلفة وحينما ينظر إلي يتطلع إلي بلهفة وكأنني عائدة من السفر ولا يريد التحدث سوى بالعين، حاولت أن أكف عن النظر إليه حتى لا تظهر مشاعري تجاهه ولكن بلا جدوى، فكأني عابر سبيل في صحراء ليس لديه طعام ولا شراب ووجد منزل بيه كل ما يحتاج، فهو منزل به راحة وأمان لقلبي.

 انهيت الجامعة ولم يخبر أحد منا شعوره تجاه الأخر، فكلمات أمي دائما كانت السجان لمشاعري ولا أستطيع البوح بها، تقدم لي زوجي رامي وانتهى بي الأمر لما أنا عليه الآن، ولكن يبدو أن خطوة العمل كانت خطوة صائبة.

رواية عطر من الماضي - الفصل الثاني من هنا

بقلم: آية نبيل

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments
Islam ibrahim - أكتوبر ٧, ٢٠٢٠, ١:٥٥ ص - Add Reply

مبدعه مبدعه اية

You must be logged in to post a comment.
Aya - أكتوبر ٩, ٢٠٢٠, ٤:٥٤ ص - Add Reply

شكرا لك

You must be logged in to post a comment.

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٤ ص - عبد الفتاح الطيب
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٤ م - شروق
About Author
Aya
Aya