هاهي تقبع في غرفتها حبيسة جدرانها , فمنذ سنين طويلة خلت لم يزرها احد ولم تغادر بيتها ,هذه نهايتها كما ارادتها او التي لربما فرضتها الحياة عليها واني لأظنها ارادتها بشغف المحب للخلوة بالله وحتى لا يكون بقلبها سواه , لذا فقد تفرغت لربها كليا.
تقضي سلامة يومها بين العبادة والنوم واني لأحسب نومها عبادة ايضا .
هل كانت سلامة امراة مثل كل النساء ,ربما لكنني لا اظنها عاشت يوما حياة امراة عادية, فهي امراة في نظر الناس اقل من ان يعيروا لها انتباههم, واراها امراة من طراز خاص, وان لم تجمعني بها يوما حياة , الا من لقاءات عابرة لا تزيد عن تبادل التحية والابتسامة , لكنني كنت اخاف مصيرها ,اشعر انني احياها دوما ما يتملكني شعور ان مصيرنا ذاته . وان كنت اشعرها فرصتي لتوخي كل اخطائها لكي افوز بمصيرا ارقى دون اخطائها , فهي قد استسلمت لجبروت الحياة وظلمها لسماحة خلقها لربما ,وانكسرت بل دمرت كليا لهشاشة خبراتها بالحياة, فهي لا تمتلك من حظوظ الدنيا ومعارفها سواء ما حملها نحو سفينة الله ترتل ما فطرت عليه من عبادات . ذهبت ذات يوما لدار علم تبتغي النذر اليسير من امور دينها فهي قارئة لكتاب الله , لكنها لم تتلقى من علوم الدنيا وخبراتها شيء ,وهذا ما جعلها تفشل في ادارة حياتها واعتزالها لكل البشر هاربة نحو خالقها تتوسله ان يبقيها في حضرته ....
اظنني تعجلت النهاية , وهانا دون كل فشلها وبكل نجاحاتي اعتزل الحياة نحو الله ..
قصتها لا تشبهني في شيء ولربما لا اشبه من قصتها شيء ,غير انني تتملكني رغبة في ان احدثكم عنها , حينها ستحكمون ما اذا كانت هناك شبه بين حيوات جمعتنا .
طفولتها كانت عادية عاشتها بين اخوتها الستة ولعل ترتيبها الخامسة بينهم بعد ولدين وبنتين لم يكن ليضعها موضع اهتمام من قبل الأسرة , فالولد دوما فرحة والبنت بعد سيل من الأولاد فرحة غامرة اما بنت بعد اولاد وبنات فما هي إلا كمالة عدد , لذا لا أراها تميزت في أسرتها بشيء يذكر من طفولتها رغم إن الأطفال كلهم يأتون بحظوظهم لأهليهم واحسبها لم تضف ما يسعد أهلها من الحظوظ.
شبابها ولجته باكرا فالطفولة بمدينتنا تختصر بالزاوج المبكر , فقد تزوجت ولم تبلغ العاشرة من عمرها ولم تبلغ الرابعة عشر إلا وهي ترضع وليدها الأول .
زوجها هو من صير مصيرها الى ما آلت إليه اليوم .انه قدرها الذي كتبه الله لها وهو الذي جعلها امرأة اربط مصيري بها ....جبروته لم يكن له حد , رجل غليظ بكل ما تحمله كلمة غليظ من أوجاع , أنجبت منه أربعة ولدين وبنتين لم تقر عينها بواحد منهم , كلا خذلها بطريقته وان ابروها , وكلهم لربما خذلتهم بطريقتها وان حرصت على تربيتهم كما قدر لها واستطاعته . وتلك نكبة اخرى اردتها نحو ما تحياه اليوم من تقوقع وانغلاق .
كانت سلامة كل ما أوجعتها الحياة وانزلت عليها خطوبها تفقد بهائها وتتنازل عن حقها حتى في ان تبدي حزنا او تذمرا ربما هو الصبر والاحتساب ما قصدته ولكن الناس كانوا قد اتهموها بموت الشعور حتى سجلت لها اول حالة اضطراب نفسي .
دأبت سلامة في حياتها على العمل والإنتاج منذ ولادتها وهي تعمل في بيوت السادة العلويين , تحطتطب وتربي وترتب , وبعد أن فشلت في تجربة الحياة الأسرية اما وزوجة , حملت متاعها الذي لم يكن الا ثوب سترها وغادرت المدينة باحثة عن حياة أفضل لربما كان ذلك عقب أحداث مرت بها البلاد سياسيا واثر انقلاب عسكري في جنوب البلاد , فبلادنا اعتادت أن تغير حكامها بطريقة الأفعى عندما تغير جلدها الذي تنتزعه كليا , ليحل بدلا عنه جلد جديد غير ممنون للجلد القديم بشيء الا بمنهجه في ظلم الشعب ,فالثورات في بلادي لا تقوم من اجل إصلاح وضع معوج انما تقوم من اجل احلال سلطان خلفا لسلطان ولو كان اشد منه اعوجاج, ففي بلادي يهتف الثوار دوما (الشعب يريد اسقاط النظام ) ولم يهتفوا يوما ان الشعب يريد اصلاح البلاد . اذ لربما لو اقمنا ثورة تطالب بالصلاح , لما كانت لنا ثورات ولما كان لنا شهداء ثورة .
اما سلامة فقد نالها حظا من هذه الثورة فقد وجدت لها عمل في منزل رئيس البلاد خادمة و مربية و مؤتمنة لديهم, وجدت في ذلك المنزل الما جميل اعتصرته ورعاها احبته وعاشته بضع سنين ولان الايام دول فقد انتهت حقبة ذلك الملك و فر الرئيس وعائلته هاربين لخارج البلاد وقد خيرت هي بين مرافقتهم او البقاء, وقد اختارت البقاء . ربما لأنها لا ترى لها فضاء اخر غير بلادها .
وعادت سلامة من حيث اتت عادت مدينتها و ما غادرتها الا الى مستشفى الامراض العصبية والنفسية اثر حالة اكتئاب شديدة اصابتها اثر احدى نكباتها في اولادها وببلادها وعندما يأس الاطباء بالمستشفى من تحسن حالتها واستشفاها قرروا لها بمغادرة المستشفى فأعادوها الى بلادها ولم تعد تملك شيء من بهائها .
You must be logged in to post a comment.