شعرة بيضاء
لم يكن يوما بنفس لون تلك الشعرة عندما وجدها، كان يوما على العكس تماما...
أسود غائم لم تشرق شمسه بعد و لم ترسل حتى بصيص من النور، الغريب أن اليوم هو عيد مولده.. اليوم بالذات أتم الثلاثين و بدأ رحلة الواحد و الثلاثين، هل مر العمر هكذا سريعا ، مازال يذكر حياته كلها يوم بيوم و لحظة بلحظة ، شريط كامل من الذكريات يتدفق أمامه بلا توقف، و لكنه يسير بسرعة كبيرة، هل من المعقول أن حياته مرت بتلك السرعة؟ و الباقى من العمر هل سيمر بتلك السرعة أيضا؟ هل سيغمض عينيه و يفتحهما ليجد نفسه أتم الستين ؟ و بعدها السبعين؟ هل سيغمض عينيه و يفتحهما.. أم لن يفتحها بعد ذلك !
هز رأسه بقوة يمنة و يسارا لينفض عنه كل تلك الأفكار و الخياﻻت التى سيطرت عليه فجأة، كل هذا بسبب شعرة بيضاء ، شعرة بيضاء وجدها فى شعر صدره و أختها فى رأسه عند فوده الأيمن، شئ غريب أن يجد تلك الشعرة فى هذا اليوم بالتحديد ،هل هى صدفة أم هو القدر.. فعلى الرغم أن اليوم عيد مولده و لكن الحياة كانت تعد له إحتفالا مختلفا ، بداية تركه لعمله الذى ظل به ستة سنوات ، لقد أضاع من ستة سنوات من عمره فى عمل لا يحبه و مكان لا يحبه ولكن لا يوجد غيره و عملا بالمثل القائل "النوايا تسند الزير " و عمل لا يحبه أفضل من لا شىء .فوجيء بذلك عندما ذهب صباحا متأخرا كالعادة ليجد الخبر فى إنتظاره، لقد تم إنهاء عقده و سيحصل على مكافأة بسيطة ، ملاليم بالتأكيد، الجميع حذره من القطاع الخاص و العمل بعقد و لكن لم توجد أى شركة أخرى فى ذلك الوقت و كان فى حاجة ماسة للعمل ، أخبر خطيبته بذلك فكان الرد :-
- احنا مش هينفع نكمل مع بعض .
قالتها مصحوبة بخلع ذلك الخاتم الذى ارتدته ثلاث سنوات، ثلاث سنوات خطبة مرت عليه مع إنسانة لا يحبها ، و لكنها إمرأة كما يقولون "جوازة و السلام " و أعقبت هى
- أنت بقالك تلات سنين مقدرتش تعمل حاجة لا جبت عفش ولا جهزت الشقة ولا عندك عربية و لا سافرت و مافيش أمل فى المستقبل و كمان جاى بتقولى إنك سيبت الشغل .
- هما اللى سيبونى الشغل .
- المهم إنك دلوقتى عاطل أظن الوضع ده ما يرضيش حد كفاية على كده أنا آسفة ،و الشبكة هتوصلك بكرة .
ابتسم إبتسامة باهتة وقال :-
- الشبكة دى هدية العروسة مبروك عليكِ .
- يبقى كلك ذوق و كتر خيرك بعد إذنك .
من ضمن تلك الخسائر التى يعيش بها طوال عمره، لم يحقق شئ من أحلامه و طموحاته لربما كان العيب به هو ، لربما كان هو بلا أحلام أو طموحات و لكنها مجرد أفكار يقنع نفسه بها إنها أحلام و طموح ، ولكن ما وجه الضيق إنه لم يحب عمله ولا خطيبته ولم يحب شيئا من تلك الحياة ، فلماذا يحزن ؟ من الممكن أن تكون تلك فرصة للتفكير من جديد .
رن هاتفه ليتلقى ذلك الخبر ، وفاة أعز أصدقائه، هكذا فجأة و بدون مقدمات ، إنه لم يكن أعز أصدقائه فقط بل لربما كان صديقه الوحيد ، يتوفى هكذا فجأة ، هل يمكن أن يموت هو الآخر فجأة ؟ هل يموت الآن مثلا ؟ هل يمكن أن يشيب و يموت و هو لم يحقق شيئا فى حياته بعد ؟
للمرة الثانية تسيطر عليه تلك الأفكار و الخياﻻت بسبب تلك الشعرة فى رأسه و صدره ، ثم اتخذ القرار أحضر المقص و أزال تلك الشعرة البيضاء من رأسه و بالمثل فى صدره ليعود كما كان شابا صغيرا شعره فاحم السواد لا يعيبه الشيب ، وقرر أن لا يعيب حياته شىء ، أن يصنع الحاضر والمستقبل كما يريد هو ، لا يندم على شىء و لا ما مضى و ينظر للأمام، يعمل ما يحب و يتزوج ما يحب و يفعل ما يحب و لا يترك شيئا للصدفة و القدر، قرر أن يعيش حياته شابا لكى لا يشعر بالعجز ، قرر أن يكون له ذكريات، قرر أن تكون له حياة و ليس مجرد أفكار و أحلام أو حتى خياﻻت .
أحمد سلامة
You must be logged in to post a comment.