عقدة سمر 2

... 

في اليوم التالي دعت سلمة جارتيها فردوس ورقية التي تقطن بالطابق الأول من أجل شرب الشاي والتخطيط لزيارة سيقمن بها الأسبوع المقبل إلى دار الأيتام القريبة من حيهم.

دقت الساعة الخامسة مساء، فجاءت فردوس محدثة جلبة في السلالم بأصوات أساورها الذهبية وكعب حذائها العالي الذي تداوم على ارتدائه مهما كانت الظروف ولسبب مجهول. في هذه الأثناء كانت سمر في غرفتها، فرن جرس الباب ذهبت لتفتح وإذا بنظرة فردوس اللعوب تستقبلها بنظرات فاحصة وشفتين ممطتتين، لكم تكره سمر هذه الحركات، لكنها تغاضت عن كل شيء وقالت بهدوء:

-          أهلا خالة فردوس تفضلي بالدخول

أجابت فردوس

-          سمر ابنتي، كيف حالك؟ ما أخبار الدراسة ؟

استغربت سمر بادئ الأمر من سؤال فردوس وكلامها اللطيف ونبرة صوتها الهادئة، بعد حركتها السخيفة التي قامت بها أمس، فأجابت باقتضاب دون أن تنظر إلى عينيها ودعتها تدخل وأغلقت الباب، واتجهت بعد ذلك إلى المطبخ من أجل إعداد الشاي. أثناء ذلك سمعت فردوس وهي تتحدث إلى أمها عن جارتهم رقية :

-          لماذا ناديت رقية يا سلمة ؟ تعلمين جيدا أنني أنني لا أحبها و لا أحتمل حديثها أو حتى النظر إلى وجهها، فكيف أستطيع شرب الشاي معها و التنسيق معها من أجل عمل الخير هذا الذي سنقوم به؟ أف ... يا ليتها تتغيب أو يمنعها مانع من الحضور، لا أظن أنني أستطيع الاتفاق معها حول أي موضوع.

أجابت سلمة بلهجة بريئة :

-          ناديتها لكي تساعدنا، هي وكما تعلمين لديها علاقات اجتماعية واسعة، وسوف تسهل عملنا مع هذه الجمعية وجمعيات أخرى مستقبلا. ومن يدري ربما نتعلم منها شيئا ونوسع دائرة معارفنا لتشمل مؤسسات المجتمع المدني... أ ليس هذا أفضل بنظرك ؟ مساعدة الناس وإسعادهم تجعلني شخصيا أكثر هدوءا وتسامحا وتصالحا مع ذاتي...

قاطعتها فردوس بصوت كاد أن يكون صراخا، فهي لا تحب الحديث عن مواطن الهدوء والراحة والطمأنينة، على الرغم من أنها تدعي ذلك في كل تجمع نسوي :

-          إنها لا تعرف شيئا و إنما تدعي ذلك من أجل جذب الاهتمام، كل ما هي عليه من تألق ظاهر إنما بسبب زوجها، لولاه لما استطاعت تركيب جملة مفيدة أو حتى الظهور أمام الناس. إنها تتملق من أجل كسب محبتك ومحبة الجيران

واستمرت فردوس في حديثها المسيء لرقية، أما سلمة فاكتفت بالنظر إليها باستغراب وتعجب، مندهشة من قدرة جارتها على إقناع من تتحدث إليه بحقيقة افتراءاتها، هي سلمة صديقتها المقربة كادت أن تصدقها وكأنها تنومها مغناطيسيا، كادت أن تقتنع حقا من كون جارتها رقية متملقة وسيئة الطباع، فأدركت أن لفردوس موهبة في الإقناع والخطابة لا يستهان بها، وأنه يجب عليها تحذر وتحتاط من غمامة فردوس التي تسيطر عليها شيئا فشيئا.

طنت سمر لوهلة وهي في المطبخ أن معركة أو شجار سيشب بين فردوس ورقية عندما تأتي، فشعرت بخوف شديد وارتباك وهي تدخل غرفة الضيوف بصينية الشاي والحلويات، فاتخذت مكانها أمام كل من أمها وجارتها محاولة تتبع ما يحدث بينهما ومترقبة الباب بتوجس خشية أن تطرق رقية الباب ويعم الصراخ أرجاء المكان، فكانت تتمتم في نفسها متمنية أن يحدث شيئا حميدا يمنع رقية من الحضور، فهي تكره الصراخ والتواجد في مكان مليء بالعلاقات المشحونة.

دق جرس الباب فانتفضت سمرمن مكانها كأن إبرة وخزتها وذهبت نحوه محاولة أن تبدو هادئة برسم ابتسامة خفيفة على شفتيها من أجل استقبال رقية التي أظهرتها فردوس جارة طالحة ولا تستحق الرفقة :

-          مرحبا خالتي رقية كبف حالك؟ تفضلي بالدخول فأمي تنتظرك

-          أنا بخي، شكرا لك بنيتي هيا ندخل حتى لا نجعل أمك تنتظر أكثر فأنا قد تأخرت بعض الشيء، أليس كذلك؟

أجابت سمر :

-          لا عليك خالتي لم يفتك شيء بعد

لم تستطع سمر الانضمام لجلسة النساء تلك من أجل تجنب الشجار الذي سيشب بعد قليل، فلبثت بالمطبخ وقد أقفلت الباب لكيلا تسمع الصراخ، لكن سرعان ما نادتها أمها لكي تحضر الماء...

أيعقل أن خالتي رقية قد أغمي عليها أو شعرت بالتعب من هول ما سمعت من فردوس ؟ هذا وارد جدا، سأذهب لكي أرى. هكذا كانت سمر تحدث نفسها.

عند دخول سمر إلى الصالون سمعت فردوس تحدث رقية قائلة :

-           كيف حالك أختي رقية؟ الآن فقط كنت أخبر سلمة أنه لولا وجودك لما استطعنا تنسيق هذه المبادرة الإجتماعية. فأنت إنسانة اجتماعية يعتمد عليك في هذه المواقف، أدامك الله وحفظك لأولادك... بهت وجه سمر كمن بهت وجهه يوم القيامة من هول المفاجأة والصدمة، فتوقفت قليلا قبل أن تضع قنينة الماء فوق المائدة، والتفتت نحو أمها لتجدها  لا تختلف عنها كثيرا، هي الأخرى توقفت مذهولة ولم تعد تعرف كيف تبادر الحديث إلى رقية على الرغم من أن هذه الأخيرة سألتها عن أحوالها عدة مرات، فكانت تكتفي بالإيماء أو الإجابة بشكل مقتضب. 

جلست سمر قبالة فردوس، وكانت تنظر إليها بشرود محدثة نفسها قائلة : 

-          كيف لها أن تغير كلامها و نبرة بهذه السرعة والدقة؟ هل هي ممثلة أم أخذت دروسا في التمثيل ؟ كيف لها أن تذم شخصا في غيابه بكل الألقاب البذيئة و الصفات المسيئة، ثم تمدحه بعكس تلك الصفات أمامه بكل طلاقة، ودون أن يرف لها جفن، أو حتى تخجل من صديقة عمرها سلمة التي جعلتها تسمع كل ذلك الكلام، وبينما هي شاردة في حديثها نفسها، فاجئتها فردوس بكلامها المعسول الذي باتت تمقته كثيرا وتكذب كل من يتفوه به، حتى أنها امتنعت عن قوله أيضا، لأنها مقتعة بأن المشاعر أفعال و خير الكلام ماقل ودل : 

-          عزيزتي سمر، ما رأيك ان تحضري لنا "براد" شاي ب"النعناع" من صنع يديك لكي تتذوقه جارتي و حبيبتي رقية، ولا تنسي حلوى "الغريبة" أيضا، فقد حدثت رقية عن مهارتك في صنع الحلويات

أجابت سمر يتكلف :

-          حاضر خالتي، دقائق معدودة ويكون الشاي جاهزا

فذهبت سمر إلى المطبخ ممنية نفسها بعدم العودة إلى الصالة مجددا.

انتهت الجلسة واتفقت النسوة على الذهاب إلى دار الأيتام مع توزيع المهام وتحديد الزمان والمكان، طبعا كل هذا تم بتدخل فردوس التي استطاعت تسيير الجلسة بلسانها الخادع وغمامة الكذب الوردية التي تؤثر بها على كل جمع تحضره. أما سمر فلم تستطع النوم من شدة التفكير، أحيانا تشعر بأن عقلها سينفجر، فهي لم تستوعب بعد كيف لإنسان سوي أن يكون بهذا الخبث، كيف له أن يكون بهذا القدر من السوء. فبكت بحرقة ومنت نفسها التخلص من هذا الشعور المرير، دعت الله في سرها أن يخلصها من تلك الجارة أو أن يهديها إلى السلوك القويم، دعت الله بكل خشوع أن ينتشلها من حزنها وكربها ومن عدم قدرتها على استيعاب أن الحياة تحمل من الأشرار والخبيثين ما يكفي لزعزعة طمأنينة الطيبين وعرقلة سير حياتهم.

مرت الأيام والأسابيع بشكل بطئ جعلت سمر تعالج جراح روحها المبعثرة بشكل بطئ أيضا. وذات يوم فوجئت بأمها تخبرها أنها ستقوم بوليمة تعزم إليها كل الجارات، ستحضر طعام الغذاء لهن جميعا رغبة منها في الأنس والتالف والتكافل. أمها تحب الضيوف ولديها يقين أن المنزل الكثير ضيوفه حاضرة بركته. فرحت سمر لذلك وهي أيضا تحب استضافة الجيران والأقارب ... لكنها تذكرت فردوس فجأة .. حضور الجارات يعني حضور فردوس، فسألت أمها على الرغم من أنها تعرف الإجابة :

-          هل ستأتي الخالة فردوس ؟

أجابتها سلمة :

-          طبعا ستأتي، هي أيضا جارتنا، وإن كانت سلوكاتها غير متزنة فهي صديقة طفولتي وأمانة خالتي "صفية "، تعرفينها أليس كذلك ؟

أجابت سمر :

-          أعرف القليل عنها فقد حدثتنا عنها سابقا

-          حسن لا ضرر من التكرار حتى لا تنسي أنت يا عزيزتي، السيدة صفية رحمها الله تكون أم فردوس وفي نفس الوقت السيدة التي اعتنت بي عندما توفت أمي وأنا طفلة، لذلك فدينها في رقبتي حتى الممات، لقد أوصتني بفردوس، بألا أتخلى عنها مهما كانت الظروف، وأعتقد أن الضغوط التي تمارسها علينا فردوس ماهي إلا اختبار وابتلاء لنرى أنحن أهل بالأمانة أو لا. هل فهمت يا عزيزتي؟ 

أومأت سمر برأسها موافقة، لكنها ما لبثت أن استطردت :

-          كنت أعتقد في بعض الأحيان أنها سبب عدم اتزانها وتعاطفك الدائم معها هو عقمها ...  

 قاطعتها الأم : 

 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن
About Author