سمر فتاة تبلغ من العمر عشرين سنة، وتقطن رفقة والديها وأخيها الصغير بشقة كبيرة لبناية أكبر تتكون من ست طوابق، وهي تحتل الطابق الرابع. سمر سعيدة جدا بحياتها البسيطة ووسطها العائلي الدافئ. شيء واحد فقط يعكر صفو مزاجها وأحيانا يجعلها تفقد السيطرة على غضبها، فتظهر للملأ عصبية المزاج متكبرة وغاضبة، بينما هي ليست كذلك أبدا. هذا الشيء مع الأسف إنسان، وتحديدا امرأة بعمر أمها تكون جارتهم التي تقطن بالشقة السادسة. هي جارتهم وصديقة طفولة أم سمر، لذلك فالأسرتان أحيانا تظهر للعيان كعائلة واحدة متكاملةّ، فلا يكاد يمر يوم دون أن تراها أوتسمع اسمها الذي أصبح يقشعر بدنها عندما يحدث ذلك. لقد أصبحت تكرهها والأمرّمن ذلك أنه يجب عليها أن تداري كرهها وسخطها من أجل أمها والحفاظ على الجو العائلي الهادئ وهذا ما يثير سخطها حقا وغضبها حقا.
ذات صباح أرسلت سلمة ؛أم سمر؛ ابنتها إلى الجارة قائلة :
- سمر، اذهبي بهذه الفطائر الساخنة إلى خالتك فردوس
اجابتها سمر بطريقة من لا يريد أن يفهم شيئا :
- خالتي من ؟ أنا ليست لدي خالات ...
فقاطعتها الأم :
- هيا بدون مماطلة، جارتي وحبيبتي فردوس من لدي غيرها أذهبي لها سريعا قبل أن تبرد الفطائر فهي تحبها ساخنة
- ها ... أتقصدين جارتنا تلك، حسن هات الطبق
صعدت سمر السلالم بتأفف و تأني ممنية نفسها ألا تجد أحدا بالبيت، أو أن تقوم فردوس بحركتها المفضلة وهي ترك الزائر يطرق الباب دون أن يجيب فيذهب دون أن تتكلف هي بضيافته أو حتى إرساله. أو أن تتأخر بفتح الباب لكي يضجر الزائر ويمنع نفسه من زيارتها مرة أخرى.
طرقت الباب عدة مرات ولا من مجيب ففرحت في سرها وهمت بالذهاب لولا صرير الباب الذي ضيع أملها وجعلها تستدير مرة أخرى، لترى شقا من الباب يفتح ويطل منه وجه فردوس متجهما وعابسا بشكل تلقائي وأتوماتيكي، عيناها كبيرتان ذات لون أقرب لزيت الزيتون المتخثرة، شعرها كستنائي مرفوع للأعلى على شكل ذيل حصان كالعادة، ويد على مقبض الباب مستعدة لغلقه فورا، فتداركت سمر الموقف بسرعة محاولة إخفاء تعابير وجهها المستاءة من استقبال جارتهم لها، وقالت :
- صباح الخير خالة فردوس، كيف حالك؟ لقد بعثت لك أمي هذه الفطائرمن أجل الفطور، هل أضعها في المطبخ ؟
وبينما سمر تهم بالدخول، استوقفتها الخالة بحركة ونظرة ونبرة صوت لن تنساها طوال حياتها قائلة :
- لا تدخلي... لقد نظفت الأرضية للتو وستبقى أثار لأقدامك هنا، ارجعي إلى الوراء وهات الصحن وانتظري ريثما أعيده لك ...
هذا الموقف السخيف فاجأ سمر كثيرا وأغاظها، لم تعتقد يوما أن جارتهم ستتمادى إلى هذه الدرجة معها، فسألت نفسها أ تراها ارتكبت خطآأ دون أن تدري ذلك؟ هل قامت والدتها بفعل مشين لها حتى ترد فردوس الصاع صاعين بإهانة ابنتها بهذا الشكل البغيض؛ هذا وارد جدا لأنه من عادة فردوس تجريح الناس بسبب أقربائهم أو أصدقائهم؛ لكن ليس لهذه الدرجة. أصبح وجه سمر متلونا من شدة الغيظ و الإهانة، فكتمت غيظها والتزمت الصمت والانتظار ريثما تستعيد الصحن الفارغ. عادت الخالة بالصحن وسمر تنتظر بالباب بشكل مخز، لكن صدمتها كانت كبيرة عندما لاحظت ان الخالة أحضرت معها مساحة للأرض من أجل تنظيف المكان الذي كانت تقف فيه سمر، فأحرجت كثيرا وأخذت الصحن بحركة سريعة تكاد تكون خاطفة دون أن تتطلع إلى وجه الجارة، لأنها لم تكن متأكدة من أنها ستستطيع كتمان غضبها أمامها ورميها بشتى الشتائم والألقاب، فأسرعت الخطى حتى لا تقع في المحظورات، وعوض أن تصعد إلى شقتهم نزلت إلى أسفل السلالم، حيث المكان مظلم من أجل أن تستجمع نفسها وتستعيد هدوءها قبل العودة إلى أمها سلمة. لم تكن تريد إثارة بلبلة داخل أسرتها من لا شيء فلزمت الصمت وقررت النسيان، لكن لابد من محادثتها لنفسها علها تجد بعض الهدوء :
- من تكون هذه الحقيرة لكي تعاملني بهذا الشكل المهين؟ كان على والدها أن يسميها جهنم وهذا ما ينطبق عليها ففردوس اسم يخجل منها، أنا متأكدة من أنه لو كانت الأسماء تتحدث لتبرأت الفردوس من صاحبتها، أشعر كما لو أن اسمها يصرخ ويستغيث ويقول أنا بريء مما تفعله هذه المخلوقة العجيبة... من تظن نفسها؟ لقد أحضرت لها فطورا، لم يكن عليها أن تعاملني بتلك الطريقة، حتى لو كان حذائي متسخا، حتى لو كنت متسخة كليا، حتى لو جئت رأسا من الشارع...
هكذا كانت تحدث سمر نفسها صاعدة السلالم بتمهل لكي تكسب المزيد من الوقت لاستعادة هدوئها قبل الدخول إلى شقتهم :
- أمي... ها قد أحضرت الصحن، تبلغك الجارة سلامها...
ولم تزد على ذلك حرفا خشية التفوه بما جاهدت من أجل كتمانه.
أجابت الأم :
- حسن يا ابنتي شكرا لك
سمر لم ترد أن تعكر مزاج أمها بهذا الموقف السخيف، حتى أنها أرغمت نفسها على أن يكون صوتها مرحا كالعادة وابتسامتها مشرقة حتى لا تشك أمها بشيء و تستجوبها مجددا.
يتبع
You must be logged in to post a comment.