"ع الجامعة يا حجة؟" 🚌
وفجأةً ترجَّلَتْ إلى الحافلةِ تلك التي بالكادِ تحمِلُها قدماها، مصفرَّةَ الوجهِ مبهمةَ الملامحِ من كثرةِ التَّجاعيدِ على وجنَتَيْها.. يداها متعرِّجتانِ كصحراءَ غزاها إعصارٌ رمليٌّ في ليلةٍ غابَ فيها ضَوْءُ القمر.. تتَّكِئُ على عُكَّازٍ خشبيٍّ نَقَشتْ عليه أوجاعَها وآلامَ جسدِها الذي لم يبقَ له من العمرِ أكثرَ ممَّا مضى!
صعدتْ بعد معاناةٍ بالغةٍ إلى باص الجامعة الذي يضيقُ دائماً بركَّابِه.. باستعجالٍ مُجحِفٍ سألَها السَّائقُ " ع الجامعة يا حجة" فأجابتْ بنبرةٍ متقطِّعةٍ : "اه يمة ع المستشفى"..
جلستْ بهدوءٍ إلى المقعدِ المُجاورِ إلَيَّ وبدأتْ مجلِسَها بابتسامةٍ لمستُ فيها حزناً يتجاوزُ بعمقِهِ عمقَ انحناءَةِ ظهرِها التي تحكي قصَصاً لامنتهيةً من التَّعب..
بادلتُها التبسُّمَ دونَ أن أعبأَ بشأنِها في البداية؛ فقد كان فكري منحصراً في مُجرياتِ يومي الدِّراسيِّ الصَّعب المُنتَظر
إلَّا أنَّها كما جاءت دخيلةً على الباص، أبت إلَّا أن تكونَ دخيلةً على تفكيري أيضاً.. استَوقَدَتْ في رأسي عجباً وتساؤلاً.. هل من المحتمل أن يكون لها أبناءٌ.. لكنَّ لسانَ المنطقِ أجابني حتماً لا.. تمنَّيتُ أن يكونَ فعلاً كذلك!!
فحتماً وقطعاً وجزماً، عقوقٌ أن تُترك أمٌّ "بحالتها" تجرُّ نفسَها وتداعبُ تفاصيلَ الشَّارع بقدَمَيْها مجهِدةً كلَّ مِفصلٍ في جسدِها المُنهك، تأخذُ معها اللاشيءَ من القُدرةِ وتركبُ باصاً من أسوأ ما قد يمتطيهِ بشرٌ لتصلَ بعد عناءِ سفرٍ يتذمَّرُ منه من هم بعمرِ أحفادِها إلى المستشفى لتتلقَّى علاجَها علَّها تمدِّدُ فترةَ صلاحيَّةِ أعضاءِ جسدِها لتمضيَ ما تبقَّى من عمرِها بتعبٍ تحتمله..!!
فمهما كانتِ الظُّروف.. مخيِّبٌ وجودُ أبناءٍ تهونُ عليهم من لهم يدٌ في كلِّ تجعيدةٍ على وجهِها..و كلِّ تقوُّسٍ في عظمةٍ من جسدِها..بأنْ تُتْرَكَ لتصارعَ الطَّريقَ نحوَ المشفى وحدَها!
فيما كنتُ مبتعدةً بنظري خارجَ حافلتِنا البائسة.. شعرتُ وكأنَّها تنظرُ إلَيَّ وتريدُ قولَ شيءٍ ما.. أعرتها بعضَ اهتمامٍ..
فنطَقَتْ دونَ تردُّدٍ :" شو بتدرسي يا خالتي؟"، "كم عمرك؟"، "مين أبوكِ ؟"... وكنتُ كلَّما أجبتُها عن سؤالٍ أتبَعَتْه بآخرَ وأنا أتعجَّبُ أكثرَ ربَّما لتطفُّلها.. ثم أردَفَتْ قائلةً : "أعطيني رقم أمك يا خالتي، ابني محمود صارلي سنتين بدورله عروس، تخرج واشتغل وقسمتله شقة من الدار الكبيرة وعندو سيارة و وضعه ممتاز الحمدلله، حتى حكيتله وديني ع المستشفى بالسيارة بس يحرام تأخر بالسهرة مع اصحابه وما رضي يصحى بدري"
لوهلةٍ كنتُ سأصرُخُ في حضرة ما قالتْه.. فمنذُ دقائقَ كنتُ آملُ أن لا يكونَ ابنُكِ محمود فرداً من مجتمعِنا أو مسلماً من أمَّتِنا.. كنتُ سأشعرُ بالخيبةِ والغَيْرَةِ عليكِ وعلى الأحاديثِ والآياتِ المُطوَّلةِ في" برِّ الوالدين" لو اكتفيتِ فقط بإخباري أنَّ لك ابن.. عذراً يا خالة فابنُكِ لا يناسبُني ولا يناسبُ أبنائي في المُستقبلِ ليكونَ أباً لهم.. فإن هنتِ عليه أنتِ سنهون عليه جميعنا!!
لم أنطقْ بكلِّ ذلك حفاظاً على مشاعرِها التي لا أظنُّ أنَّها محفوظةٌ أصلاً.. أجبتُها باستحياءٍ مصطَنَعٍ أنَّني لا أرغبُ بالزَّواجِ حاليًّا!
#بثينة_صبره 💚
You must be logged in to post a comment.