بملامح محايدة كلون معطفه الأبيض، ببرود كبرود سماعته المعدنية قال الطبيب:
الصورة تثبت وجود نقطة سرطانية في المقدمة اليمنى لدماغ المريضة!!
وقعت عبارته عليّ كالصاعقة، أسندت راحتاي إلى مكتبه وقلت له: إنها فقط متعبة بسبب الإجهاد وقلة النوم، أو ربما انخفض ضغطها بشكلٍ حاد كما حصل معها قبل سنة، أو ربما أصيبت فجأة بهبوط حاد بالسكر في الدم فتسبب لها في الإغماءة!!
رد بعصبية: المسألة ليست إجهاداً، وأما فحص الضغط والسكري فطبيعيان عند زوجتك والتشنج والإغماء الذي أصابها سببه تلك النقطة السرطانية!!
ثم نهض لمعاينة مريض وتركني عند تلك النقطة لأجد بعدها هذه السطور:
خط الدفاع الأول
لم تحوجاني لاستدعائهما فهما خط الدفاع الأول نجدهما كلما مررنا بأزمة لإنقاذنا... كما هما دائما... متفانيتان في دعمنا، دائبتان في السهر على راحة أطفالنا، لا تنتظران إلا ثواباً من رب الأرض والسماء، إنهما أمي، وأمي الثانية، حماتي.
هـروب
كما حاولت على نحو بائس، تكذيب كلام الطبيب، فقد هربت من عيون زوجتي، ولما سألتني عن نتيجة صورة الدماغ. أجبتها: طبيب الطوارئ رفض الإجابة لأنه لا يحسن قراءة هذا النوع من الصور وغدا صباحاً نعرف النتيجة من الاستشاري!! عندها نظرت في عينيّ وقالت: أنت مَـنْ لا يحسن الكذب!!
سفـرة
كعادتها بدت متجلدة أمام الحدث، ولمّا أخبرتها أني أفكر بإلغاء سفر عملٍ يفصلني عنه خمسة أيام، قالت: لا تلغِ سفرك، يجب أن تحضر أول اجتماع تقييمي لعملك، وأنت جديد في المكان وتحتاج أن تثبت حضورك!!
لم أنتهِ لقرار بشأن السفر، لكن ما زلت آمل أن نفيق من هذا الكابوس، وأن أشارك في الاجتماع السنوي، طلب مديري أن أسافر ليوم واحد لعرض تقريري، لكن انحدار حالة زوجتي في اليوم التالي رجّح كفة الحب والوفاء.
يــدان
نظرت لكفيها عندما كانت تبحث الممرضة عن وريد مناسب لغرس حقن الأدوية، فوجدتهما وقد اصطبغا باصفرار من أثر "المحاشي" التي كانت تعدها لنا عندما باغتها التشنج والإغماء.
قلت لنفسي: يا إلهي كم بذلت هاتان اليدان من أجلنا!؟ كم أبهجتنا بألوان الطعام والحلوى!؟ وكم غسلت وكوت من أكوام ثيابنا!؟ وكم تشققت وهي تغسل الأطباق وتكنس الفوضى التي نحدثها في أرجاء البيت!؟
تلكما اليدان اللتان براهما التعب، بات من العسير الآن على الممرضة أن تجد فيهما وريدا ملائما لغرس الحقن التي تركت بقعا زرقاء مثل الكدمات.
رزمة
عندما كنت أدفع رزمة من مال لمكتب جلب الخادمات، وعندما تعهدت أمامهم بدفع راتب شهري لها لا يقل عن 200 دولار، وعندما طلبت من مدرس أن يقوم بمذاكرة الدروس لأولادي مقابل مبلغ مماثل، تذكرت أن زوجتي لم تطلب قط مالاً مقابل الأعمال السابقة وكانت تفعل ذلك برضاً واحتساب.
كـنـز
غمرَنا الأهل والجيران وزملاء العمل بالحب والرعاية والاهتمام، وبرز لنا مساندون لأوقات الضيق ممن كنا نعدهم معارف عابرين في هوامش حياتنا فباتوا أخوة يسكنون القلب. وعندما ذكرت لأحدهم شعورنا بالامتنان لما نجده من اهتمام قال بتواضع: إن ما ترونه هو رحمة من الله بكم يظهرها على أيدي خلقه.
سعادة
أنكرت ذلك الحزن الذي تملّكها، ولم أستطع وعوّادها التخفيف عنها، لكن مجرد سماح الأطباء لأطفالها بزيارتها أعاد الروح لجسدها وجعل أطيافا من الأمل والفرح ترفرف في المكان.
عندما حضروا... لم تأبه بالفوضى التي أحدثها خمسة أطفال في غرفتها ولم تأبه بعلبة الحلوى التي أفرغوها، ولا في التفاحات التي قضموها وألقوها، لقد نجح الأطفال حصرياً في إعادة الجذل إلى عينيها القلقتين.
جناحان
كثيراً ما كنت أسأل زوجتي بقلق، أليس الابتلاء من لوازم الإيمان، ونحن نزعم أننا مؤمنون، فأين البلاء؟ كنت لا أنتظر منها الإجابة بل ألهج من فوري بدعاء "اللهم إنا نسألك العافية من البلاء".
عندما مررنا بمرضها وتوابعه، شعرت أن استحقاقات البلاء تُـظهر صدق الإيمان، وتذكرت أننا نرفل في النعمة والعافية لعشرات السنوات فما بالنا إذا تعرضنا لامتحان دب اليأس سريعاً في نفوسنا؟!
أدركت أن الإيمان لا يحلّق بنا إلى جنات الرضا إلا بجناحي الشكر والصبر، وأن مفتاح ذلك في القرآن الكريم، وكنت أشد ما أستشعر هذه المعاني وأنا أرقي زوجتي بآياته المباركة.
You must be logged in to post a comment.