هــي نانااا

 فيأوائل تسعينات القرن الماضي، عندما كنت أعود برفقة أمي من بيت جدي ليلا، حالما تضيء المصباح القديم لبيتنا الأول ذي الغرفة الواحدة، كنت أقول بكل براءة وعفوية لطفل في الثالثة من عمره: "هي نــانــااااا" مسبوقة بشهقة جميلة. كانت أمي تبتسم، ويبتسم قلبها إذ تسمعني، وأي ابتسامة؟ ابتسامة فتاة في ربيعها الثاني والعشرين، لا تملك في الدنيا سوى هذا الشقي ذي الأعوام الثلاثة، ورضيعة كثيرة الصراخ، وزوج كثير المبيت خارج البيت لظروف عمله.

في ذلك البيت رأيت نورين؛ نور الحياة، ووجه أمي المبتسم.

في بيتنا الثاني ذي الغرفتين والساحة الصغيرة، والمساحة المزروعة الصغيرة أيضا، وصل ذلك الشقي المرحلة الإعدادية، وتزينت الطفلة بالمريول الأزرق. في ذلك البيت أقسمت علي أمي وهي تدرسني أن أعيد إحدى الجمل الإنجليزية في كتابي المقرر مئة مرة لكي أفهمها، أعدتها مرغما، اطمئني يا أمي، شقيك الصغير يتكلم الإنجليزية الآن بطلاقة، وهوعلى وشك التحدث بلغة ثالثة

في بيتنا الثالث ذي الغرف الأربعة، والساحتين الأمامية والخلفية، ذقنا ألم الغربة بعيدا عن العاصمة.  في ذلك البيت يا أمي رمى شقيك بنفسه في مخالب التوجيهي، وتزينت الطفلة بمريولها الأخضر.

في بيتنا الخامس ذي الطابقين، انتزع ابنك يا أمي من فم الأيام شهادتين، شهادة التوجيهي، وشهادة البكالوريوس في الهندسة من جامعة بعيدة. وخاضت الطفلة غمار التوجيهي، وهي توشك أن تتزين بـزيـــها الأبيض، أقصد يا أمي زي الأطباء، وتحصل على درجة البكالوريوس في الطب والجراحة.

اليوم، وأنا أهـم بدخول شقتي الصغيرة وحيدا، بعيدا عن تلك الفتاة التي أصبحت سيدة كبيرة، تقطن الطرف الآخر من البلاد، عند أشقياء آخرين مثلي، أنير المصباح بنفسي، أتذكر الكلمة التي قلتها قبل أكثر من عشرين عاما، أتذكر ابتسامة تلك الفتاة، أقولها، بحروف طفل في الثالثة، بصوت شاب عشريني، بــهـم جدير بمـثـل سنوات عمري، بألم يشبه ألم الغربة، أهم بــها، احتفظ بها لنفسي، أقولها في نفسي "هي نــانــااااا" وأتخيل ذلك الوجه المبتسم.

هي نــانــااااا"= هي دارنا.

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٨ ص - jimina
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٥ ص - شهد بركات
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:١٤ م - Amani
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١:٠٨ م - soha
أبريل ١٢, ٢٠٢٢, ٢:٠٠ ص - Zm23138244
أبريل ١٢, ٢٠٢٢, ١:٥٩ ص - Kawthar hasan
About Author