ينسج الحنين طيف من رحلوا

كنت جالسة في غرفتي المظلمة والكئيبة وصوت المطر يطرق مدويا في الخارج او في اذني لا أستطيع التمييز، المهم أني اتذكر صوت قطرات المطر على النافذة وكأنه رصاص يصرخ مدويا من فوهة سلاح، الشيء مخيف قليلا او ربما كثيرا، ولكن هذه المرة شعرت بشيء من السعادة الغريبة لا أدري كيف ولماذا، اهي نابعة من اعماق الظلام داخل روحي؟ اوانها مجرد ذكريات قديمة؟ لا أستطيع الجزم. وانا في غمار حالتي الغريبة هذه سمعت صوتا غريبا من الخارج وبدا كشيء يقع، هدأ بالي عندما رأيت من شباك المطبخ أحد القطط يبحث عن بقايا طعام في سلة القمامة، غريب كيف تهدا نفس بشرية عندما ترى مخلوق جائع؟ وانا عائدة من المطبخ الى غرفتي بعد ان حضرت طبق العشاء، فجأة وبدون سابق انذار، رن جرس شقتي، غريب، جد غريب، فانا لا انتظر احدا والوقت متأخر، وقفت عند الباب وترددت في ان أرد او أبقى صامته، رن الجرس مرة اخرى وما كان منى الا ان افتح له الباب، كان شابا في اوساط عمره الثلاثين وطويل القامة كالمارد، عريض الكتفين، مع شعر طويل مربوط، نظر الي ثم ابتسم وقال "هل لي ان ادخل؟" تسمرت في مكاني محاولا قول أي شيء، ولكن عبث فاكتفيت بتمتمة هامسة مع ضحكة خفيفة وقلت "لما لا، تفضل" طبعا شتمت نفسي كوني بهذا القدر من الغباء ولمت نفسي على سماح شخص مجهول بالدخول هكذا، ماذا لو كان لصا او مجرما او متحرشا؟ ولكن شيء ما دفعني لإدخاله، وسألت نفسي هل لو كان لصا او من ذلك القبيل من الذكور، هل كان سيطلب الدخول بأدب؟ قطعا لا وتذكرت كلام سمية حينما قالت لي ذات يوم "هناك اشخاص مع اول ابتسامة منهم تشعر بالطمأنينة اتجاههم وجوهم سمحاء وقلوبهم نقية كالثلج" طبعا لم اصدق سمية في ذلك اليوم، ولم أكن اتصور ان هناك اناس بهذه الصفات، ولكن، شيء ما بداخلي أحس بكلامها اليوم، شيء ما اثبت لي أني خاطئة وان سمية محقة.

                              

جلس، بدون ان يستأذن حتى، وأشعل التلفاز وطلب كاسا من القهوة! نعم؟ ماذا يريد؟ من الذي اعطاه الاذن؟ اي زائر حقير هذا! قلت في نفسي حسنا، وليكن، ابتلعت اشمئزازي ونظرت اليه وقلت "تكرم" اعددت القهوة وعدت وجلست على الاريكة المقابلة، رشف رشفة من القهوة، مما اعطاني الوقت الكافي لأتأمل تفاصيل وجه، كان وجه مجعد، فيه ثغرات تلفت نظر الاعمى، ولديه عينان عسليتان ومرقطة! مع حاجبان رفيعان بعض الشيء مع شعر لحية طويل ومهذب وبدا وكأنني اعرفه، اقسم يا مريم أنك تعرفينه ولكن اين؟ اين! وبعد ان أنهى نص فنجانه قلت له "اي خدمة؟" صمت لوهلة ثم قال "لدينا اصدقاء مشتركون، ابتسام صديقتك في الجامعة عرفتني عليك وبصراحة وقعت في مشكلة واحتاج ان ابيت خارج المنزل هذه الليلة، فهل تمانعي؟" توردت وجنتاي واصفر وجهي ودار بي العالم خمس عشر ألف مرة وانا بمكاني، لم أدري ماذا اقول، ما يريد مني ان اقول؟ كيف تقبل فتاة ان يبيت عندها رجل لا تعرفه؟ باي وجه عذر؟ تمتمت بكلمات غير مفهومة، صمت قليلا وقال "لا أدري كما انا حقا ابله بان اطلب منك هذا، انا اسف، سأغادر" فتسرعت وقلت "لا، لا يمكنك البقاء" اي غباء كنت املكه في ذلك المساء، مرة اخرى اورط نفسي في مشاكل لا تخصني ولماذا؟ حينما أدركت انه لا ملاص من هذه الورطة وفي محاولة مني لإنقاذ الموقف، قلت له "لماذا لا نخرج؟" فقال "الان؟ الى اين بهذا المطر!" فهمست وكأني اقول سرا "الى زقاق السوق القديم" اكتفى بهز راسه وقبل ان التفت، اخذني من يدي بلمح البصر الى الرصيف ومشينا، نظرت الى الساعة وكان الوقت 12:22ص وقلت اي فتاه هذه التي تخرج مع شخص غريب في هذا الوقت المتأخر؟  نظرت الى حائط جارتي الهام وكان مكتوب عليها كلام بلغة اجنبية، غريب لم ارها من قبل كيف؟ لا بد ان اسالها عنها وماذا تعني. التفت الى حائط بيتي وكانت هناك قطة حالكة السواد تنظر الي بحدة، يا الهي من اين جاءت هي الاخرى؟ كيف لقطة ان يكون لديها كل هذه النظرات الوحشية! تعوذت من الشيطان واكملت المسير، مشينا بسرعة وعندما وصلنا الى مدخل الزقاق رأيت في اقصى اليمين، طفلة لم تتجاوز الخامسة من عمرها تلبس فستان ابيض وتبتسم لي ابتسامة عريضة، وبدا وكإنها تريد ان تغريني بابتسامتها لاتبعها. شد الشاب على يدي مما قطع حبل تأملاتي، اهي حقا كانت تأملات؟ لا أدري، قال "الا تريدين أخذ جولة داخل الزقاق؟"  فرددت بابتسامة ملاطفة وقلت "هيا بنا" نظرت الى الساعة مرة اخرى وكانت الوقت 12:12ص نعم؟ وكيف؟ هل قررت عقارب الساعة ان تسير بعكس اتجاهها في هذا اليوم؟ ولم في هذا اليوم؟ ام أني فقط أهذي؟ تساؤلات وتساؤلات بدون اجابات، أيجب على ان اترك الصفحة مليئة بفراغ الاجابات واهرب؟ ام يجب على ان أغرق في عمق الاجابة؟

 

كانت قد مرت وهلة من الوقت وانا واقفة مسندة ظهري على حائط السوق القديم بمساعدة ساعد يدي الايمين، أفكر بما يجب على فعله بهذه الورطة. لماذا يعقد هذا الشاب الامور علي؟ كيف يجرني، بكل حواسي، حيثما يريد؟ كيف تكون مريم بهذه السهولة؟ انا التي يقولون عنها ضابط عسكري في غمار حرب لشدة صرامتي اكون بهذه التفاهة اليوم! ولان هذا الشاب يصر على قطع حبل تخيلاتي -والذي كان حبل معاناتي هنا- مشى بخطوات بطيئة نحوي كشخص يمشي الي قبره واقترب من اذني وهمس بترنيمة اعرفها، كنت متأكده من أني اعرفها، وربما كان هذا هو الشيء الوحيد المتأكد منه في ذلك اليوم. ترنيمة سيطرت على مشاعري الدفينة فما كان مني غير ان أجهش في البكاء، انهمرت الدموع كالمطر في الوديان على صحاري وجنتاي! لاحقا في نفس الليلة نظرت الى نفسي في المرآه فرأيت وجنتاي تلتمعان، واستغربت وتساءلت هل الدموع تغسل البشرة كما تغسل الروح؟ طبعا لم اعرف لماذا بكيت كعادتي. مرت المزيد من الدقائق الصامتة وفجأة صرخت حتى رقصت حجار الزقاق! لم أستطع التقين إذا كان قد سمع الشاب جنوني هذا؟ ام كان الصراخ داخل روحي؟ افترضت انه كان في اعماقي وانه لم يسمع اي شيء. بدأت حقا اتوجس خيفة مما يجري وشعرت بشيء من الخوف والغموض، اُثقل كاهلي واعتمر الحزن صدري. لا اذكر اخر مره تساقطت دموعي بهذا الشكل، او هل امطرت سماء عيني هكذا من قبل اصلا. مسك يدي بشدة حتى ظننت انه كسرها ومسح شلال الدموع المنهمر وقبل رأسي وقال كلمات لم افهمها. كنت اتمنى ان يعانقني وان يكسر ضلوعي ايضا، ولكنه لم يفعل. دقت ساعة ال 1 صباحا وبدأت الذكريات الغريبه تكشف عن نفسها بعض الشيء، وفجأة تذكرت معنى الكلمة الاجنبية التي رأيتها على حائط جارتي، كانت كلمة ارمينية تعني "المحبوبة" اي مريم اسمي، انه الاسم الذي اختاره والدي لي كيف نسيت ذلك؟ اما الفتاة الجميلة ذات الفستان الابيض التي كانت على جانب الزقاق هي انا ايضا. كان عيد ميلادي الخامس حينما احضر لي والدي هذا الفستان الباهي هدية ولشده اعجابي به لبسته على الفور، كنت أبدو به كنجمة تسطع في سماء ليل صاف. اما القط الشرير الاسود انه غارفيل الكسول، لم يكن شريرا لكن تعابير وجهه كانت دائما عبوسه وكأنه يائس من كونه قط او من الحياة ككل، كان ابي يحبه ويقضي وقت كاف معه. ولكن شيء ما التمع في ذهني وجعلني أتساءل لماذا كل هذه الذكريات ترتبط، بطريقة او باخرى، بوالدي؟ نظرت الى التاريخ وكان يصادف ذكرى وفاته الحادي عشر. يا إلهي! هل كل ما حصل كان من شده حبي وتعلقي بأبي؟ عاود الشاب النظر الي وفي نفس اللحظة أدركت أني لم أسأل الشاب عن اسمه بعد، وقبل ان يترك لي المجال ابتسم والنور يملئ وجهه حتى ظننت لوهله ان الشمس قد اشرقت من بين تجويف اسنانه وقال "مريم يا عزيزتي لقد عدت لارى كم كبرتي يا محبوبة". قالها وبردت روحي، انطفأت، احترقت، قالها وتلاشى، تبخر، انشقت الارض وابتلعته. لم ابكي هذه المرة، لم أستطيع ان افعل، كان بالفعل قد جف بحر دموعي. لماذا فعلت ذلك بي يا ابي؟ لماذا تركتني على قارعة الزقاق معلقة بك ورحلت؟

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ٢:٠٣ ص - Momen
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٥٢ ص - صانعة السعادة
يناير ١٠, ٢٠٢٣, ١:٣٧ ص - anis
أبريل ١٣, ٢٠٢٢, ٣:٥٥ ص - Mohamed
مارس ١٨, ٢٠٢٢, ٣:٣٢ م - Sarora Fayez
فبراير ١٢, ٢٠٢٢, ١٠:٥٣ م - مريم حسن
About Author