الصدمة الحضارية و العرب القرنين التاسع عشر و العشرين

 

لم تكن 1798 مجرد سنة في سلم التاريخ بل هي سنة ظل أثرها و نتاجها على مداد ما يقارب القرنين و ربع القرن أي حتى يومنا هذا نعيش بعض نتائجها و إن كان ظاهر ما صار فيها شر فباطنه كان خير على العرب بصفة عامة فيها حلت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابارت (1769-1821) و حل علينا بها ركب حضارة غربية حديثة أخذت بسبل التقدم و صنعت لنفسها الإزدهار و الثورات الفكرية و العلمية و التقنية قدمت على أرض المشرق على قاهرة المعز بأحدث آلات القتال و أفتكها و أعظم التنظيمات العسكرية كذلك معها من الأطباء و العلماء و معها أيضا المطبعة الإختراع الأعظم على الإطلاق في القرن الخامس عشر للألماني غوتنبرغ الطابعة التي جعلت من الفكر و العلم متاح و معمم للجميع قدم الفرنسيين و معهم حضارتهم الجديدة و بهذا التواصل بين العربي و الغربي خلقت في نفس العربي صدمتا و إحساسا بالنقص أمام نظيره الأوروبي و شعور بالتعالي في نفس الأوروبي المتقدم على العربي بأشواط فكانت تلك الصدمة الحضارية في نفسية المجتمع الشرقي محفزا و مشجعا لخلق رغبة العربي لإعادة إحياء أمجاده و حضارته التي صارت من الماضي و إستغلها الأوروبي ليخلق مجده فتجاوز العربي بفضل هذه الرغبة عقدة النقص لديه فبرز مفكرون و مجددون و مصلحون عرب أو مسلمين في أرضنا العربية فقد كان الفكر العربي و الإسلامي بحاجة الى تجديد و تحديث لما يلائم التغيرات العالمية فبرز مفكرون كثر مثل رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) جمال الدين الأفغاني (1838-1897) محمد عبده (1849-1905) أحمد بن أبي الضياف (1803-1874) عبد العزيز الثعالبي (1876-1944) كلهم مفكرون مجددون نادوا بالتجديد و التحديث و الإصلاح بين الفكر الإسلامي المتزمت و الأفكار التقدمية المنادية بحرية الفرد و الفكر و التعبير و العدالة و المساوات فخلقوا معادلة فكرية تجمع بين هويتنا العربية الإسلامية و الأفكار و النظم الغربية الحديثة التي هي سر التقدم و الإزدهار كذلك كانت مناهجهم الإصلاحية التقدمية تأكد على ضرورة مساهمت العنصر العربي في هذا الإصلاح و إستقلاله بنفسه عن أي قوة أجنبية سوى كانت تركية أو أوروبية ليخق من جديد عهد عربي لا تتريك فيه و لا تباعية فيكون العربي سيد نفسه و صاحب كلمته و قائد نهضته كذلك نذكر في القرن التاسع عشر محاولات إصلاحية كثيرة من أصحاب القرار في هذه الفترة منها إصلاحات محمد علي باشا (1769-1849) في مصر و هي الأشهر على الإطلاق فقد جعل محمد علي من مصر قوة تزاحم الإمبراطورية التركية و القوى الأوروبية بفضل جملة الإصلاحات الإقتصادية و الإجتماعية و العسكرية و العلمية عبر البعثات الطالبة للعلم في أوروبا و بناء الجامعات و المدارس مثل المدسة الطبية في القاهرة سنة 1827 و المهندسخانه قبلها بسع سنوات فكانت فترة محمد علي أول محاولات الإصلاح و النهوض بالعرب بعد سبات قرون كذلك نذكر تونس التي لم تخلو من محاولات إصلاحية متلاحقة فأولها مع حمودة باشا الحسيني (1759-1814) الذي كان أول من نادى بالإنفصال عن الأتراك و قام بالعديد من الإصلاحات و الإنتصارات العسكرية في مواجهة البندقية و الولات الأتراك في طرابلس و الجزائر فكانت المملكة التونسية في عهده إحدى أقوى القوى في المتوسط عسكريا و سياسيا و إقتصاديا وبعده نذكر أحمد باشا الباي المشير الذي أسس للإستقلال التونسي العربي و أقام جيشا منفصلا عن الأتراك و شجع على العلوم فأسس أول مدرسة متعددة التكنولوجية (polytechnique ) في إفريقيا و الوطن العربي و هي مكتب المهندسين أو الكلية الحربية بباردو سنة 1840 كما كان مفكرا سباقا على الصعيد العالمي بقرار منع العبودية و عتق العبيد سنة 1846 فكان بهذه الخطوة أحد رموز التحرر و الفكر التقدمي في العالم تليها محاولات خير الدين التونسي (1820-1890) الوزير و المفكر الذي توج تجربته الإصلاحية و الفكرية بكتاب أقوام المسالك في معرفة أحوال الممالك وفيه خلد هذا المفكر أفكاره التقدمية و وسائل إصلاح الوطن العربي حسب تجربته في المملكة التونسية و كصدر أعظم عثماني في ما بعد كل هذه الأفكار و الإصلاحات و محاولات القطع مع المنقول و خلق الجديد وتوظيف الهوية العربية الإسلامية للإزدهار و الإندماج في الأفكار التنويرية الجديدة و رغبة العربي في الإستقلال بنفسه أدت في سنة 1913 الى توحد الصوت العربي و القول العربي و الفعل العربي بالمؤتمر العربي الأول التي شاركت فيه كل الأقاليم العربية بحضور نخبتها و مفكريها و سياسيها فبه توحد الصف العربي للمرة الأولى تحت راية القومية العربية فكان المؤمر خلاصة أفكار النهضة العربية في القرن التاسع عشر و كان الهدف المشترك إعادة الإعتبار للعنصر العربي بعد أن همش في الأقاليم التي تخضع للحكم التركي و مورست معه سياسات التتريك و محاولات طمس للهوية العربية و إقصاء اللغة العربية كذلك في هذا المؤتمر خلقت لأول مرة فكرة القومية العربية و إستقلال العرب عن المستعمر التركي و الأوروبي و وحدة العرب بعروبتهم كمرحلة أولى للإصلاح ثم محاربة الجهل بالعلم و الفكر و التمدين و تبني الأفكار التنويرية الجديدة و الأخذ بوسائل التطور و نبذ مركزية السلطة التركية فكان المؤتمر نقطة تحول في التاريخ العربي فوضع منهج النضال ووسائل التقدم نظريا و خطط للتطبيق ووحد الصوت و أعلى الكلمة انتهى المؤتمر بمجموعة من القرارات التي تطالب بالإصلاح وبالحكم الذاتي وباعتبار اللغة العربية لغة رسمية وغيرها، يمكن تلخيصها كما يلي 1. إن على الدولة العثمانية إجراء إصلاحات حقيقية وبسرعة 2. على الدولة العثمانية أن تسمح للعرب بالمشاركة بالحكم فعليا وعليها أن تضمن لهم التمتع بحقوقهم السياسية. 3. على الدولة العثمانية أن تسمح بتكوين حكم ذاتي في الولايات العربية. 4. يجب اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في مجلس النواب العثماني إلى جانب التركية وأيضا اعتبارها اللغة الرسمية في الولايات العربية. 5. في الولايات العربية يجب أن تكون الخدمة العسكرية محلية إلا في حالة الضرورة القصوى. 6. لائحة بيروت: كانت ولاية بيروت قد تقدمت 1. بلائحة خاصة صودق عليها وكانت ترتكز على أمرين هما توسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب. 2. طالب المؤتمر من الحكومة العثمانية أن تكفل لمتصرفية لبنان وسائل لتحسين ماليتها. وأخيرا، أبدى المؤتمر ميله لمطالب الأرمن العثمانيين القائمة على اللامركزي كما واتخذ المؤتمر قرارين إضافيين اعتبرا ملحقين هي: أولا أن الأعضاء المنتمون إلى لجان الإصلاح العربية سيمتنعون عن قبول أي منصب كان في الحكومة العثمانية في حالة رفض الأخيرة هذه القرارات، ثانيا سوف تعتبر هذه القرارات برنامج سياسي ولن يتم مساعدة أي مرشح عن العرب في الانتخابات التشريعية إذا لم تكن من ضمن برنامج لكن بعيدا عن المؤتمر الذي أقيم في باريس كان الشعب العربي يعاني الإستغلال و الإستعباد و التهميش و الجهل و الفقر في بلاده فإما تركي أو أوروبي هو المعتدي فعلى حد قول الضابط في الجيش التركي و المهتم بشأن القضية العربية  تحسين علي : من أمثلة احتقار حكومة الإتحاديين للعرب والنيل من كرامتهم أنه كان في جملة ما يدرس في منهج المدرسة الحربية درس تشكيلات الجيش العثماني والذي من ضمن مباحث الكتاب العناصر والشعوب التي تتألف منها الدولة العثمانية وفيه أن أول هذه العناصر التركي ويشيد المؤلف بشجاعته وبسالته، ثم العنصر الألباني والشركسي والكردي وغيرها، ويطري الكتاب كلاً من هذه العناصر، ثم يقول "ما عدا هذه العناصر توجد أيضاً عناصر الغجر والعرب واليهود"، مما كان يوغر صدور أبناء العرب ولاسيما أن الكتاب يدرس في أكبر مدرسة في تركيا وصادقت على مادته وزارة المعارف العثمانية. و هنا تتجلى مظاهر تراجع الدور العربي و مكانته و إعتباره كعنصر ثانوي عالة على الدولة التركية لا ميزات و لا خصال و لا ماضي له مما خلق في نفوس العرب في الأقاليم العربية الخاضعة للحكم التركي الرغبة في الإنفصال و التحرر و رد الإعتبار للعربي كعنصر فعال عبر النهوض بالشعب العربي و إعادته لمكانته السابقة في العالم قبل الوجود التركي فمع أفكار النهضة العربية و المشاعر السلبية تجاه الدولة التركية و السياسات التركية و تأجج الشعور و الوعي العربي بقضيته و ما ذكرناه سابقا من ظرفية تاريخية و أفكار تقدمية عربية كانت الثورة الأولى للعرب و الخطوة الأولى في تأسيس نهضة عربية حلم بها العرب لمدة قرن و حاولوا جاهدين الوصول إليها ففي سنة 1916  إندلعت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي (1854-1931) فكان شريف مكة الهاشمي أول من رفع سلاحه ضد التركي فإستقل بالحجاز و أسس مملكة الحجاز و واصل الثورة حتى فلسطين و سوريا و العراق فقد كان طموحه توحيد الأقطار العربية و العمل على ماهو منشود عند العرب جميعا و هو قيام نهضتهم و حضارتهم مجددا تحت راية عربية بلسان عربي و فرد عربي يبني لحضارته في وطنه الكبير فكانت ثورة الشريف حسين بن علي الهاشمي رد إعتبار للعرب جميعا و تذكيرا بعدم فناء هذه الأمة فثورته خلاصة أفكار و إصلاحات و رغبة عربية خالصة في التحرر و بناء وطن عربي كبير أساسه فكر النهضة فأهداف الحسين كانت هي نفس أهداف فكر المهضة و أسباب خروج الحسين هي نفسها أسباب قيام فكر النهضة فالسبب واحد و الهدف واحد لذا يمكن إعتبار الشريف الحسين بن علي المحاول الأول و ربما الأخير لتحقيق أهداف العرب و قيام نهضتهم

بقلم

الكاتب محمد المطماطي 

Enjoyed this article? Stay informed by joining our newsletter!

Comments

You must be logged in to post a comment.

Related Articles
يوليو ٢٠, ٢٠٢٢, ١٢:٤٧ م - مايكل جرجس جابر اسكندر
ديسمبر ٩, ٢٠٢١, ١٢:٤١ م - إيمان خالد الأخرس
أكتوبر ١٠, ٢٠٢١, ٩:١٠ ص - DR Ahmed Zaki
أغسطس ٣٠, ٢٠٢١, ١٠:٤٥ م - أسامة إسلام
About Author