من هو الجزري؟
هو بديع الزمان، أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري (561-607هـ/1165-1210م)، كان عالماً في الرياضيات والهندسة الميكانيكية، عاش في ديار بكر، في جنوب شرق تركيا، يكني بـ(الجزري)، لأنه كان من أبناء الجزيرة، الواقعة بين روافد دجلة والفرات، درس كتب الأقدمين ومن عاصروه، والتي تناولت علم الهندسة، وصنع الآلات المائية والمتحركة، وعكف طويلاً على البحث والتجربة، فاستلهم من أسلافه، تاريخ الآلات والتقنية، خصوصاً المخترعات العلمية العربية، والهندية، والإغريقية القديمة، وقد صمم وصنع العديد من الساعات، من مختلف الأشكال والأحجام، وعمل في خدمة السلطان ناصر الدين أبي الفتح، محمود بن أرتق، وحدث أن قال له السلطان ذات مرة: "لقد صنعت أشكالاً عديمة المثال، وأخرجتها من القوة إلى الفعل، فلا تضيع ما تعبت فيه، وشيدت مبانيه، وأحب أن تصنف كتاباً، ينتظم وصف ما تفردت بتمثيله، وانفردت بوصف تصويره وتشكيله".
مصنفات الجزري
دوَّن الجزري في مصنفاته، ما صنع من آلات متحركة بديعة، ولم تكن هذه الآلات نوعاً من اللهو والترف، بل كانت تمثل اتجاه فريداً، نحو المهارات الميكانيكية الدقيقة، والذي استمر وازدهر في الأجيال اللاحقة، في ورشات صانعي الساعات والأجهزة العلمية، إنها التقنية التي كانت القوة الأساسية الكامنة، وراء حدوث الثورتين الصناعية والعلمية، واحتوت مصنفات الجزري على مجموعة من الأجهزة المبتكرة، المستندة إلى ذخيرة عظيمة وافرة، من أنواع حلقات الآلات، والوسائل الهيدروليكية، والمهارات الميكانيكية المعقدة، وهي نفسها الإنجازات، التي ظهرت فيما بعد، في صنع محركات الاحتراق الداخلي، والآلات البخارية، وقد غدت هذه التقنيات مصدراً –لا مثيل له- لإلهام المخترعين، والمهندسين، والصناع، في عصر النهضة الأوروبية، مثل ليوناردو دافنشي Leonardo da Vinci، حيث أورد الجزري في مصنفاته وصفاً لأجهزة وآلات، موزعة على ست فئات، بما فيها الساعات المائية، ومن أشهر مصنفات الجزري، (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل)، و(المعرفة عن الأجهزة الميكانيكية الخلاقة).
أهمية الساعة
تكمن أهمية الساعة، في معرفة الزمن، وحسن استخدامه، بالإضافة إلى معرفة المساجد لأوقات الصلاة، من أجل رفع الأذان في وقته، ناهيك عن إقامة الشعائر الدينية السنوية، مثل صيام رمضان، والاحتفال بالعيدين، وأداء فريضة الحج، فقد كان لا بد من معرفة أوقاتها سلفاً.
غاتيكا يانترا
تعتبر الساعات المائية من أقدم وأبسط الآلات، حيث تتكون من طاسة أسطوانية بسيطة، مدرجة بأقسام، تقيس كمية الماء النازلة، من ميزاب صغير في أسفلها، وقد استخدمت في مصر في عام 1500 قبل الميلاد، وكان في الهند جهاز توقيت، يسمى غاتيكا يانترا Ghatika yantra، وسمي اختصاراً غاتي Ghati، وهو جهاز يتكون من طاسة، نصف كروية صغيرة، مصنوعة من جوز الهند، أو النحاس، في قاعدتها ثقب، وهذه الطاسة تعوم، في قدر ماء أكبر منها، تمتلئ الطاسة بالماء تدريجياً فتغوص، وعند وصولها إلى قاع القدر، تحدث صوت ارتطام مرتفع، ينبه حارس الوقت، فيرفعها لكي تعيد هذه العملية من جديد، وقد استعمل هذا النوع من الساعات، في المعابد الهندوسية، والمعابد البوذية، والهياكل، ثم استخدم في مساجد الهنود المسلمين.
ساعة الفيل
لقد كان من ثمرة التوجيه السلطاني للجزري، ميلاد ساعة فخمة مذهلة، عرفت باسم (ساعة الفيل)، وكان ذلك في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، لينضم هذا الاختراع البديع، إلى بقية ما ابتكره الجزري، من أجهزة وآليات رائعة، فكانت بالإضافة إلى دلالتها على الزمن، رمزاً للجلال، والجمال، والهيبة.
- أجزاء الساعة: تتكون ساعة الفيل من الأجزاء التالية، طائر العنقاء (الفينيقس): وهو يدور كل نصف ساعة، مصحوباً بصوت العنقاء، والمزولة: وهو وجه الساعة، الذي يدل على عدد الساعات المنقضية، وروبوت السلطان: وهو رجل آلي يميل ويحرك ذراعه، ليكشف عن الصقر، والقلعة: وفيها ثلاثون كرة، وهي التي تطلق سلسلة هذه الأحداث، والصقر: وهو الذي تخرج الكرة من منقاره، بعد أن تنطلق من القلعة، وتسير في مؤخرة رأسه، والتنين الصيني: وهو الذي يلتقط الكرة، بعد خروجها من منقار الصقر، ويلتف نحو الفيل، والكاتب: وهو رجل آلي يدور خلال نصف ساعة، قبل أن يعود إلى وضعه، وهو يقوم بدور عمل الدقائق، والفيَّال (سائق الفيل): وهو رجل آلي يقوم بتحريك ذراعيه، عندما تسقط الكرة من التنين، وتنتقل إلى المزهرية، وهذه الحركة هي الأخيرة، في سلسلة تتابع الأحداث، وآلية التوقيت: وهي طاسة مثقوبة، موجودة داخل بطن الفيل، تتحكم بآلية التشغيل والتوقيت.
- رمزية الساعة: لقد صنع الجزري هذه الساعة المعقدة، احتفاء بتنوع الثقافات، وتلاقح الحضارات المختلفة، حين كان العالم العربي والإسلامي وقتها، يمتد من إسبانيا إلى أواسط آسيا، لذا قام الجزري باستخدم قاعدة أرخميدس، وهي ترمز إلى الإغريق، وجهاز التوقيت المائي غاتي، إضافة إلى الفيل وهما يرمزان إلى الهند، وطائر العنقاء، وهو يرمز إلى مصر القديمة، وروبوتات معممة، وهي ترمز إلى الحضارة العربية والإسلامية، ويقال أن الروبوت المعمم، الموجود في أعلى القلعة، يرمز إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي، كما قام الجزري باستعمال سجادة فارسية، وهي ترمز إلى بلاد فارس، وتنينات وهي ترمز إلى الصين، وكل حيوان له أسطورة مقترنة به، فالفيل يرمز إلى الملكية، والعنقاء ترمز إلى تجدد البعث والحياة، والتنين يرمز إلى المنعة والقوة.
- عمل الساعة: أما بالنسبة إلى آلية عمل هذه الساعة، فتبدأ عندما تعوم الطاسة المثقوبة، في حاوية مليئة بالماء، في بطن الفيل، وعند امتلائها تدريجياً، تغوص وتميل ببطء، ساحبة في نفس الوقت، ثلاثة حبال مربوطة بها، فتطلق الحبال الثلاثة، آليات تتحكم بثلاثين كرة، تنطلق انفرادياً، فتحرك التنينات، ثم روبوت الكاتب الدوار، ثم عتلات ترفع الطاسة من جديد، وهكذا دواليك، وقد تجلت عبقرية الجزري، في دقة قياس الثقب، في الطاسة المتأرجحة، إذ تستغرق نصف ساعة، لكي تمتلئ وتغوص، ثم تعيد الكرة من جديد، وعندما تغوص الطاسة، تحدث نغمة تشبه زقزقة العصافير، ويدور طائر العنقاء، وأما الكرة المحررة، فتعمل على تحريك المزولة، الموجودة خلف روبوت السلطان، من جهة إلى جهة لتحدد الصقر، الذي سوف يطلق الكرة، لكي تسقط في فم التنين، الذي ينحني إلى الأسفل، بتأثير ثقل الكرة، ليتحرك روبوت الكاتب، الذي يشير بعصاه إلى الوقت، ويضع الكرة في المزهرية، خلف الفيَّال، فيحرك ذراعيه، وعند سقوط الكرة في المزهرية، يسمع صوت اصطدامها بالقعر، وتشير الدوائر المرسومة على المزولة، أعلى الساعة إلى الوقت، وتستمر سلسلة الأفعال المعقدة وتبعاتها، كل نصف ساعة، وطوال اليوم كله.
مول ابن بطوطة
يوجد في مول ابن بطوطة، مجسم لساعة الفيل، وهذا المول يقع في دبي، والمجسم من تصميم وإبداع، مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، في بريطانيا، ويقدر ارتفاع هذا المجسم (7.5 متر)، وعرضه (1.7 متر)، وطوله (4.5 متر)، ووزنه (7.5 طن)، وقد احتوى على قادة أرخميدس الإغريقي، والطاسة المائية الهندية، والفيل الهندي، وطائر العنقاء المصري، والروبوتات المعممة العربية والإسلامية، والسجاد الفارسي، والتنينات الصينية.
المراجع
- الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية، فاطمة محجوب، دار الغد العربي، مصر، 1995.
- موسوعة الحضارة العربية الإسلامية، عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1995.
You must be logged in to post a comment.