ذهبت ياسمين للعمل كحال كل يوم، بالكاد تستيقظ في أخر لحظة لتذهب في الميعاد، فهي تحب النوم كثيرا وتحب دائما أن تنجز المهام في اللحظة الأخيرة.
ياسمين فتاة تبلغ من العمر السابعة والعشرين وهي فتاة بدينة بعض الشيء وبسيطة الجمال وترتدي حجابا عصري وتحب الملابس البسيطة والكلاسيكية.
كان لها الكثير من الأصدقاء ولكن تقلصوا واحدة تلو الأخرى وتزوجوا وانشغلوا بحياتهم الزوجية، ولا يحاولون التواصل معها إلا عند الاحتياج إما لحل مشكلة أو احتياج نصيحة أو غيرها من أنواع المصلحة!
وبعد أن وصلت لعملها وبدأت يومها بكوب من الشاي مع شطيرة القشطة والمربى اللذيذة، وبعد أن انتهت ذهبت لمقعدها ولم تلحظ ذلك الموظف الجديد حتى بدأت موظفة الموارد البشرية بتعريف الموظف الجديد ماجد للجميع، انتبهت ياسمين إلى الموظف الجديد وكم هو وسيم وجذاب، ولكن هي على يقين أن هذه الفرصة الأخيرة لها أن تنظر إليه، فهي لا تحاول النظر إلى أي من زملائها ولا تحاول الحديث معهم، فهي على يقين بأنها لن تحظى بإعجابهم نظرا لتواضع ملامحها وأن كل من حاول التقرب لها على سبيل التسلية وليس هناك أحد يأخذ معها شكل جدي، فطموح الشباب دائما هو المظهر والشكل والباقية تأتي، وهي تعي هذا جيدا ولذلك تتجنبهم وهم يتجنبوها!
كان ماجد يبلغ من العمر التاسعة والعشرين وهو موظف الحسابات الجديد، فهو جذاب ووسيم وشعره ناعم وعيونه عسلي وأنيق.
كانت جميع الموظفات يتسامرون مع ماجد ويلتفون حوله ولاسيما وقت الراحة وهو الوقت المخصص للغداء، وكانت ياسمين وحيدة كعادتها وإذا حاول أحد الحديث معها كانت تجيب باختصار الكلام، لفت انتباه ماجد تلك الموظفة البدينة والتي تعجب لمظهرها وكيف تم توظيفها وهي غير متناسقة؟! ولكن أجاب نفسه يبدو لأنها تعمل في التقارير والإحصائيات والتي لا تحتاج للتعامل مع العملاء مباشرة.
وكانت هناك موظفة وهي لمياء فتاة جميلة وأنيقة وصوتها عزب وتحاول لفت انتباه ماجد والدخول في حوارات بينه وبين زملائه، وهو فهم هدفها وبدأ يهتم بها وبالحديث معها، أما ياسمين كانت تتألم أنها لا تستطيع جذب أحد لها أو الحديث معها حتى صديقاتها قد انشغلوا عنها.
عادت ياسمين إلى المنزل ولا تستطيع كبت دموعها أكثر من ذلك، وتسألت لماذا حالي هكذا؟ لماذا لا ينجذب لي أحد؟ اللهم لا اعتراض على حكمك في شكلي وحالي ولكن اتسأل هل هناك ما يميزني؟ هل هناك ما أتفوق به يجعل الأخرين ينجذيون لي كما تفوقوا في أشياء أخرى؟ وماذا هو هذا الشيء؟
ولكن لا تعلم ما الجواب؛ ذهبت في النوم بعد أن أخرجت كل ما بداخلها من آلام في شكل دموع وأسئلة لا إجابة لها، وبعد أن اسيقظت تناست ما حدث وبدأت يوم جديد....
بدأ ماجد يشعر أن تلك الفتاة بائسة وهو يستطيع أن يمرح بها ويتسلى، ولما لا وهو الأكثر وسامة وجاذبية! وبدأ في الحديث مع ياسمين واختلاس النظر إليها نظرات مزيفة للايقاع بفريسته واعتقادها أنه يحبها، لم تستطع ياسمين مقاومة تلك النظرات والتي جعلت قلبها يخفق دون توقف، ولم تفكر لحظة في الأسئلة المنطقية، ربما لأنها في أشد الحاجة إلى مثل هذه المشاعر، وبدأت تخلق معه الحديث مثل غيرها.
شعرت لمياء بهذا الاهتمام والنظرات بين ماجد وياسمين حتى أن ياسمين بدأت في اتباع حمية غذائية لتفقد وزنها، كي تكون جميلة في نظر ماجد، وبدأت أن تحضر غذائها المخصوص وتوقفت عن الذهاب إلى خزانة طعام الشركة، ثم تجرأت لمياء لسؤال ماجد، هل هناك شيء بينك وبين ياسمين؟ هل أنت معجب بها حقا؟
وكانت ياسمين تأكل من وجبتها المخصصة ولكن جرحت أصابعها وهي تقشر التفاح، وذهبت إلى دورة المياة لغسل يدها المجروحة، وهي في طريقها لدورة المياة سمعت الحوار بين لمياء وماجد والذي أجاب فيه عن سؤالها:
- معجب؟! ماذا تقولين؟! لقد تعجبت تعينها بالشركة لمظهرها القبيح فكيف يخطر ببالك أني من الممكن الإعجاب بها؟ لكن هذا لا يمنع أني من الممكن أمرح بها.
- تقصد تمرح معها؟
- أعني ما قلته، أمرح بها كالدومى ولكن سيُفسد مرحي إذا كان معها..
- ضحكت لمياء وقالت: رغم أني لا أحبها كثيرا ولكن أشعر أنك قاسي بعض الشيء ولكن ربما تعرف قدر نفسها حقا وتعود كما كانت وكما تستحق عندما تعلم الحقيقة، كيف لها أن تصدق أنه من الممكن أن تعجب بها؟
استمر الاتنين في الحديث ولكن لم تستطع ياسمين سماع المزيد وطلبت على الفور من مديرها أن يأذن لها تعود مبكرا اليوم لأنها تشعر بالأعياء الشديد، فأذن لها بيومين أجازة مرضية حتى تشفى.
لم تتوقف ياسمين عن البكاء رغم ان الجميع ينظر لها ولكن لم تشعر بأحد، لم تشعر بأي مكان هي أو كم الوقت حتى عادت للمنزل ملقاه على الأرض، انصدمت الام وقالت: ياسمين، ياسمين ماذا هناك يابنتي؟ وحملتها لغرفتها واتصلت الام بأخوها الاكبر يوسف وأخبرته ان يأتي ليراها، حاولت ان تفهم منها ماذا هناك ولكن بلا جدوى.
جاء يوسف وطلب من أمه ان تحضر الشاي حتى يتحدث معها قليلا...
- ماذا هناك يا ياسمين؟
- لا شيء، شعرت بالارهاق ولكن أنا أفضل الآن.
- من صدمك بكلام جارح يا ياسمين؟
تفاجأت ياسمين من سؤاله وغيرت طريقة جلوسها وقالت له: لماذا تقول هذا؟
- ما حدث لكِ إما لمفاجأة خبر غير متوقع أو لكلام جارح...
- ترددت قليلا ثم قالت: كنت أظن أن هناك شاب أعجب بي ولكن علمت أنه يعبث بي....
- لا تحزني يا ياسمين، فهو من حُرم جمالك الخفي، ولكن ألوم عليكِ أنكِ تأمنين للرجال، فأنت عاقلة وتعلمين أن من يأخذ الأمر بجدية هو فقط الصادق وغير ذلك مجرد تسالي!
- بكت ثم قالت: أعذرني يا أخي فأنت لست مكاني ولا تعلم ما أعانيه من وحدة...
- وحدة! وماذا عني؟ ألا أكفيكِ؟
- ضحكت ومسحت دموعها وقالت: اللهم لك الحمد أنك أخي.
ذهبت ياسمين للعمل وهي أكثر قوة وحدية، تأكد ماجد بما يشُك به انه ربما سمعت لحديثه مع لمياء، حزن لان فريسته هربت منه ولن يفلح في الوقت الحالي محاولة جذبها مجددا...
مرت الأيام وهي وحيدة وكلما حاول ماجد او غيره العبث من جديد أوقفته عنده حدوده بكل قسوة، حتى نسي أمرها وألتفت للمرح مع لمياء وغيرها.
أثناء الحديث مع ماجد وشهاب في العمل قطع زرار القميص الذي يرتديه ماجد، وهو بالنسبة له حدث كبير كفيل بأن يجعله يشعر بالضيق طوال اليوم، حتى اخرجت ياسمين أبرة وخيط وقالت إلى زميلتها خلود ان تعطيه هذه الأشياء حتى يتعامل مع الأمر، أخذ ماجد الإبرة والخيط وشكر خلود كثيرا ولكن أخبرته أنها أشياء ياسمين، فذهب ليشكرها لم تجبه واكتفت بإماءة رأسها.
في اليوم التالي أحضر ماجد قطع شيكولاه ليضعها على مكتب ياسمين وبطاقة مكتوب بها أشكرك كثيرا، وعند جلوس ياسمين ورؤية هذه الأشياء لم تعلم ماذا تفعل؟ ولكن خشيت أن يكون سبيل للمرح بها فلم تهتم وتركتهم ثم أعطت الشيكولاه إلى عامل النظافة، شعر ماجد أنه عمل ما عليه ويكفي هذا وأكمل حياته كما هي.
طلب المدير حضور خلود لمراجعة بعض الأعمال وحينما عادت كانت شديدة التوتر والقلق، لم يهتم أحد بها سوى ياسمين وحاولت ان تفهم ما المشكلة وأن تساعدها لتنجز عملها، وبعد أن راجع المدير ما طلبه من خلود وتعجب أنها أنجزته، مدحها وطلب منها ان تستمر هكذا، عادت خلود أكثر إشراقا وشكرت ياسمين كثيرا، فتعجب ماجد لياسمين وقال في نفسه: كم هي حمقاء؟ فالمدير سيقوم بتقيم خلود أعلى من ياسمين، أهناك أحد بهذا الغباء.
جاء ذات يوم عامل البوفيه شريف في نهاية الشهر للمطالبة بمستحقاته من الموظفين كعادة كل شهر، وكالعادة هناك من قام بدفع ما عليه كاملا وهناك من دفع جزء، ولكن في هذه المرة كان يلح شريف على طلب مستحقاته كاملة من الجميع ويبدو عليه الهم والحزن، لم يهتم احد لما شعر وقاموا بأخباره عند استلام الراتب.
لم تظهر علمها بإحتياج شريف للمال هذه المرة أكثر من غيرها، وأكملت عملها وقبل الإنتهاء من العمل ذهبت لسحب مال من حسابها البنكي ووجدت فقط خمسمائة جنيه ثم ذهبت لعامل البوفيه وقالت له: أشعر أنك بحاجة إلى المال، ولا أحتاج معرفة السبب ربما لا تريد ذلك، فهذا ما لدي وأعطته ما سحبته، فبكى شريف قال لها: إن أقسمت لكِ أن كل ما أحتاجه هذا المبلغ هل ستصدقيني؟ اللهم لك الحمد حمدا كثيرا، بارك الله لك ويسر لك كل عسير، وجعل لك من كل ضيق مخرجا، إني أحتاج هذا المبلغ لأجل علاج ابنتي فهي تحتاج لبعض العلاج في مشفى حكومية ولكن يحتاجون مبلغ ألف جنيه للمشاركة في مصاريف العلاج وكل ما استطاعت جمعه من زملائي، وسلفة من المدير، ومن الموظفون، وما تبقى من راتبي خمسمائة وخمسين جنيها، خمسون جنيها من أجل مصاريف المنزل إلى أن أحصل على راتبي والخمسمائة لابنتي واكملتيهم ألف جنيه.
تأثرت ياسمين لما سمعته وشعرت أن حالها الذي كانت تشتكي منه هو أفضل من غيرها بكثير، عادت مكتبها وقد لاحظ الجميع تأخرها ولكن لم يهتم لها أحد كالعادة.
ظلت ياسمين كل يوم تطمئن على ابنة شريف حتى سمع ماجد ذات يوم وشريف يخبرها أن ابنته تحسنت على العلاج، فشعر كم ياسمين طيبة القلب ورحيمة، وشعر أنه تسرع في العبث بها كحبيبة وكان يكفي التقرب لها كصديقة، فقد خسر صداقتها بحماقته...
وبسبب أن ياسمين ليس لديها ما يكفي لاتباع حميتها الغذائية فأكملت باقي الشهر بطعام بسيط أعدته بنفسها، ولأن قلبها رحيم فكان طعامها طيب وكمية قليلة مباركة تكفي وتفيض، وكان ذو رائحة طيبة لم يستطع أحد تجاهل هذه الرائحة وطلب منها الجميع تذوق طعامها، الغريب أن رغم قلة كمية الطعام استطاع الجميع تذوق طعامها والجميع مدحوها، وحين تذوق ماجد الطعام أخبرها أنها طباخة ماهرة وانه لم يتذوق مثل هذا الطعام من قبل...
شعر ماجد تجاه ياسمين شعور الابن للأم، فهي لديها حنان وعطف وعطاء يشعر من حولها بالأمان، اذا احتاج لدواء وجد بحقيبتها حتى أنه ذات يوم حين سكبت القهوة على ملابسه وهذا من اكثر الأشياء التي تغضبه وجد بحقيبتها هي وحدها منظف لإزالة البقع دون بللها، تعجب حقا لها وشعر أنه لا يستطيع العيش بدونها...
فاراد أن يتحدث إليها وقال لها: انتظري يا ياسمين أريد أن أتحدث إليكِ.
قالت له: هل هناك ما يخص العمل؟
قال: لا، ولكن فقط استمعي لي
قالت: لا مشكلة لدي، ماذا هناك؟
قال لها: أنا أحتاج إليكِ في حياتي.
قالت له: لا أفهم.
قال لها: أنا لا أقصد كحبيبة ولكن هل لي في فرصة أن نكون أصدقاء، أنا حقا صادق.
قالت له: أنا لا أعترف بالصداقة بين الرجل والمراة ولكن أنا موجودة كزميلة وإن كان هناك أمر تريد أن تستشيرني به ليس بالضرورة نكون أصدقاء فيكفي أن نكون زملاء ولا عليك في سوء التفاهم من قبل، فقط نسيته.
قال لها: وهذا يكفي، كل ما أردته ألا يكون سوء تفاهم بيننا.
ثم ذهبت ياسمين وهي سعيدة بهذا الحديث، هي لا تهتم بأن يكون لها حبيب ولكن لم تكن تريد أن يقلل من شأنها أحد او يحتقرها أحد، وهذا كفيل بجعلها راضية بحياتها وتنتظر ذلك الوقت الذي يأتي من يرى أن جمالها الداخلي يطغى على شكلها الخارجي.
مر الوقت وبدأ ماجد بمراقبة ياسمين أكثر من ذي قبل حتى أنه أصبح يراقبها ويتبعها أين ما ذهبت، هو لا يعلم لماذا هذا ولكن يشعر دائما بدفئ غريب كلما اقترب منها، حتى شعر أنه بالفعل بحاجة لأن يكون أقرب لها من كونه زميل، شعرت ياسمين بهذا الأمر ولكن غلبت عليها عاطفتها بتصديق هذه التصرفات رغم ما حدث من قبل، ولكن ظلت تخبر نفسها هو يحب مصادقتي فقط وبساطة شكلي ومظهري سيظل عائق له ويمنعه من أن يكون أكثر من ذلك، ورغم هذا فهي تشعر بالسعادة بذلك، فرغم رفضه التام لأن تكون حبيبته فيوما ما سيأتي من يكون في رضا تام بها....
شعرت ياسمين بشيء غريب كالعقدة بجسدها، وبعد الفحص اكتشفت أن لديها ورم وأراد الطيب إجراء التحاليل والفحوصات اللازمة لمعرفة نوع الورم حميد ام خبيث؟ تغيبت ياسمين عن العمل لإجراء الفحوصات وحين علم الموظفين حزنوا عليها ولاسيما شريف وظل يدعوا لها كثيرا بالشفاء، طلب ماجد رقم هاتفها واتصل بها وأخبرها أنه يريد الذهاب معها إلى الفحص، فرفضت وقالت له لا يجوز ذلك ولكن بعد إجراء الفحوصات سأطمئنك بالنتيجة، لم يهتم ماجد لكلامها وطلب عنوان منزلها وذهب دون أن يبالي بشيء، حقا لم يشعر بنفسه إلا وقد علم مكان المشفى وانتظارها وانتظار نتيجة الفحص.
لم يعي شاب مثل ماجد معنى الدعاء بإلحاح وقلق ولأول مرة فعل ذلك حقا، خشي عليها كالذي يخشى على أمه، وبعد الإنتهاء أخبرهم الطبيب أن نتيجة الفحص بعد أسبوع، فأخبرها ماجد أنه سيتولى أمر إجازتها وهي فقط ترتاح بالمنزل، وظل يطمئن عليها يوميا، حتى أنه تغيب في يوم نتيجة الفحص وذهب باكرا ليطمئن، وتعجب لأمره ما كل هذا؟ أيعقل أن ياسمين فقط صديقة؟ وتعهد انه سيقوم بخطبتها بعد أن تسمح الظروف لذلك فهو لن يكذب بشأن تعلقه بها أكثر من ذلك.
وجاءت النتيجة وأخبره الطبيب أن هذا الورم قد تقلص وهو حميد وستشفى بتناول عقاقير بسيطة، اتصل بها ليخبرها أنه في المشفى ولم ينتظر حتى اطمئن عليها وأخبر أخيها أنه سيأتي بنتيجة التحاليل.
ذهب ماجد ولم يتردد في طلب زواجها وأنه ينتظر موافقتها وكذلك موافقتهم، لم تصدق أمها ولا اخيها هذا فهو وسيم وأنيق كيف له أن يعجب بها؟!
وحينما أتى هو وأسرته ابيه وأمه وأخيه وزوجة أخيه، تعجب الجميع من اختياره ولكن لم يعلق أحد وتمت الخطبة...
الجزء الثاني: فاتنة ليست فاتنة ج٢
بقلم: آية نبيل
You must be logged in to post a comment.